- أنتَ تستحق كل شيء.. ولكن أخشى في انتظارك أن أعود وأنتظر أشياء أخرى. نحن نحب الانتظار، انتظار من يصفعنا على خدنا ، ونحن نعرف أنه سيصفعنا ، وعوض أن نسبقه ونقاومه ، ننتظر كفه الضخمة المديدة تقتل الدم في وجوهنا.. ننتظر من يأتي نيابة عنا ويحرر لنا الوطن ، انتظرنا اليهود حتى احتلوا بلادنا ولم نمنعهم عندما أتوا إلينا من كل حدب وصوب.

هذه علتنا ننتظر الذي يأتي ولايأتي.. ننتظر غودو.. ننتظر الفارس المنقذ.. ننتظر أن يهبط علينا من السماء ليحرر الأرض ويحرر النفس من عقدها.



- وتذكرت الآن حديثها عن القصيدة التي تكتب بالدم، إنها مؤمنة بشيء ما ، ثمة سحر يشدها إليهم.

قالت عنهم إنهم الشهداء الذين يكتبون قصائدهم بأرواحهم.. هل كانت تعني الذين يكتبون قصيدتهم مرة واحدة وإلى الأبد؟ أتذكر هذه الرموز ، التي كانت، في كل مرة توحي لي بها ، كالشرارة ، ياإلهي.. إنها تريد أن تثبت في روحي هدفاً ما.

قضية كبرى.. إنها تشدني من حيث لاأشعر إلى المزيد من التعاطف مع قضيتها ، كم أنا خجل من نفسي الآن لأنني بدأت أدركها مؤخراً ، بل صرت على استعداد حقيقي كي ألتقي بأبي أحمد وأقول له : هاأنا رهن إشارتكم.



-لا.. لاتغرقني في اليأس.. إن تضحيات هؤلاء تجعل القضية حية في أذهان الأجيال ، لاتموت القضية عندما يسفح على جوانبها الدم. يجب أن تظل صلبة وموجودة في الذاكرة.

إذا لم نطعم نيرانها بدمائنا فسوف تنطفئ وتدوسها أقدام الغزاة إلى الأبد ، أنا مقتنعة أشد الاقتناع أن كل سقوط لشهيد من شهدائنا هو اقتراب من الأرض ، خطوة ثانية نحو التحرير ، إنني الآن في حالة من الوجد ، كما لو أنني أشاهد بعيني هاتين يوم العودة.

يوم استعادة الجليل واللطرون وبئر السبع وحيفا ويافا ، قبل القدس ورام الله وغزة ، إنني أرى جحافل الشعراء تتقدم بكل شجاعة، لنستعيد بيوتنا التي مازالت مفاتيحها في جيوبنا.



- ثم صمتت وظللت أنا أيضاً صامتاً ، مادّاً يدي على الطاولة والأخرى مستندة إليها.

تأملتني لحظات متتالية ، وأنا أنتظر منها أن تبدأ الحديث ، ظلت صامتة ، بل لوهلة ما ، ارتسم حزن على وجهها نادراً مارأيت عمقه ونزفه.

مدت يدها إلى يدي وراحت تلامس ظاهرها بباطن راحتها ، فسحرتني سحراً أخاذاً ، وغيبتني عن العالم ، كأنني وإياها نجمتان ، غيمتان في البعيد ، نبعا ماء يتحدان في مجرىواحد.

كأن تلك الظلمة الهادئة تفتح لنا سماء من نور، وكأننا نخرج معاً من الخوف إلى الاطمئنان ، ومن الجحيم إلى الحقول الخضراء.



- وتتحرك تاركة مقعدها ، تنحني قليلاً نحوي وأنا ماأزال جاثياً على ركبتي مذهولاً مما أرى.. بل واعياً لكل ماأرى ، لا.. ليس خيالاً.. ليس تخيلاً.. ليس جنوناً.. أنا بكامل قواي العقلية ، بكامل وعيي.. إنها هي.. حضورها نفسه.. أيتها المباركة بطهارة الشهادة ، أيتها النقية نقاء هذه الدموع التي تنسكب من كل عين حزينة.. أنت أنت يأيها النور الذي يغمرني في ظلام هذا السكون الساكن قلب الليل.. اقتربي مني. انتزعيني من هذه الوحشة التي تأكلني كما تأكل النار الهشيم.

عودة