-بدأ هدوء الصالون يصرعه، هو الذي لم يعتد الهدوء. الكل نائم ماعدا الذاكرة المشتعلة بالقهر، ماعدا أسئلة يعرف جيداً الإجابة عنها لكنها تظل قاسية ومربكة لشخص اعتاد عمله لدرجة الإدمان. ثم فجأة، أثناء تربعه الكرسي الجلدي في المكتب، لمحت عيناه تلك الورقة اللعينة التي أعادته إلى رحم أمه. مجرد ورقة تافهة طبع عليها ختم رسمي، أرجعته إلى بيته وسرقت منه تفاصيل أدمنها. لاتقارير خاصة بعد اليوم، لابيانات سرية، لامعلومات مخيفة، لاسلطة تحيط اسمه، لاشيء. كأي مواطن ثري، سيفتش عن أخبار الدنيا بين صفحات الجرائد، وستكتفي ذاكرته بالإشاعات التي تتداولها أوساط المثقفين أو المعارضة أو السلطة.



-فتحت مها نوافذ الصالون الثلاث وتنفست الهواء البارد المندى ببكاء الغيوم طوال الليل الفائت. فتحتها على مصاريعها فبدت الشبابيك وكأنها تعانق مها وتضمها إلى صدرها. مها لم تستسلم لهذا العناق الصباحي. جلست على الكرسي قبالة السماء المسربلة بالرمادي، وبدأت تمج سيجارة الصباح بتوتر لذيذ. ربما يكون هذا أول صباح لاتنشغل مها فيه بترتيب حساباتها وعدّ الفلوس المتبقية من راتبها وراتب منير وحصر مخيلتها لإيجاد حل يطيل عمر المازوت في البدونات دون أن يتعرض ابنها الوحيد للبرد. ستستطيع الآن تغيير ألوان الجدران التي لم تنج من شراهة الرطوبة. ستغير فرش البيت العتيق والكئيب الذي باخت ألوانه وتآكل قماشه وصار يفضح عري الاسفنج.



-في حديقة بيتهم، غيمة ينهمر منها عرق جبينه كل يوم فأمطرت حتى الآن خمس سيارات مركونة تحت مظلة حديدية تستلقي على سطحها دالية عنب مهملة. سيارة كبيرة شبابيكها السوداء ترهق العين وتثير الغموض. وأخرى صغيرة لكن لونها الفضي يجعلها تبدو فسيحة. سيارةحمراء كبيرة. ورابعة زرقاء. كانت هدية جهاد للسيدة بتوش جهاد آغا في عيد ميلادها الثلاثين. تناسب لون عينيها البحريتين أو السمائتين. أما السيارة الأخيرة فهي مخصصة لنقل الأطفال الخمسة إلى مدارسهم وحفلاتهم ونزهاتهم. لكن جهاد لايتردد بأن يذكر أصدقاءه ومعارفه بأن هذه الأملاك والأموال هي ليست نطف أفرزها منصب والده لتنمو وتكبر وتدر عليهم ماهبّ ودبّ من النطف .. كلا .. معاذ الله، بل هي من عرق جبينه



-فجأة شمت حنان رائحته تداعب أنفها الرفيع وتملأ تجويفاته. ليست مجرد رائحة. تذكرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء، عبق أنفها بروائح أجساد كثيرة. برائحة الزفير التي تخرج من أنوفهم وأفواههم رطبة لزجة، تعشعش في زوايا المكان وتسكنه هاجساً أبدياً. ذلك المساء، استطاعت حنان أن تميز رائحة زفيره، أحست بعشق يبلبل أوردتها، شعرت بأمان عظيم، وجدت للحظة أن هذه الرائحة هي انتماؤها لروحها وجسدها، انتماؤها لهذه الحياة الغريبة والقاسية أحياناً. استنشقتها وحفرتها في ذاكرتها وفي لفيفات دماغها فأصبحت تهجس بها كل يوم. أدمنتها ولم تعد تقوى على الافلات من رغباتها وشغفها في أن تراه باستمرار.



- كعادته كل مساء خميس، يتمدد محمود على سرير الزوجية بجسده المختنق بالشوق، يمجّ سيجارة وراء أخرى بحماسة يعكرها نفاذ الصبر. يمضغ قطع الخيار والبندورة بفم من شهوة. منتظراً الوصلة الخميسية.

كعادته كل خميس، يدوي الشريط ذاته بأغان شرقية هابطة. يجنّ خصر "سهر" بحركات مدروسة. يهتز صدرها المندى بالعرق. تغمض عينيها وتغيب بعالم من الغرابة والاباحية. ثم تفتحهما بعد أن ينتهي صير زوجها وتكون الحفلة قد انتهت.

-هل العهر حرام ياحاجّة؟

-ليس حراماً مادام للزوج..!

عودة