- وكان الأب لايأسف لذلك، ولايفرح به ، الولد الذي يقرأ عند "الخطيب" مثل الولد الوحيد عند ختانه.

المهم لأبي أن نقرا، وأن تكون قراءتنا أنثى لاذكراً ، حسب تعريفه.

كنا نحس بشيء من الشمات إذا ماسمعنا أمي تقول : مابقي ينقصني إلا أشيلكم وأحطكم بيدي للبول والغائط. أنتم بلا قراءة مافيكم خير ، فكيف أن يصير لكم مثل هذه الحجة!

ياليت رجل الخطيب كانت انكسرت ، قبل أن داس بها تراب هذه الضيعة. قراءة لعب بلعب.

خمسة أيام ، وأنتم مرنخون في "أبجد" ، إن استمرت الحال كذلك ، فسيظهر القائم ، ولن تختموا ربع ياسين ، ولماذا القراءة والكتابة؟ لتصيروا مثل أبيكم الناس في شغلها، وهو يرتل : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".

سبحانه ولايسري به هو إلى البرية، فيفلح أرضاً، أو يغرس شجرة!



- كان ولعي بالعصافير نشوة غيبية، لم أجد مايماثلها في الطفولة الثانية إلا أن أقرأ شعراً لنفسي.

كنت إذا مارأيت عشاً على شجرة ، أو عثرت عليه عند عرق بلانة في الأرض أو في تجاويف صخرة ، أعتبره كنزاً من جمال .

في البناء لم أر أروع من العش ، ألوان بيض العصافير والحجل وشكله ، تبصر القلب بما لم يبصره شيء آخر.

رؤية الفراخ في العش ، هي رؤية الخيال مجسماً ، ماعرفت عشاً فدللت أحداً عليه ، كما يفعل الصبيان الآخرون. ولاأقعد عن تفقده مرتين وثلاثاً في اليوم ، منذ أن يكون حصوات إلى أن تطير عيدانه.

كنا نقول للبيضة "حصاة" ، والفرخ هو "عود" ، كنا نزعم أن الحية تشرق البيض وتبتلع الفراخ إذا لم نعبّر بالمجاز عن الاسم الحقيقي.



- المسنّ يتمثل القراءة فوق ماعنده من تجارب ، قد تضيء له إدراكاً ماضياً ، فيتوسع إلى الأمام دونما انبهار في بصيرته .

هو كمن يتناول شراباً مسكراً على وجبة طعام ، بينما ولع الولد قد يشوبه الدلع ، وقد ترافقه الحماقة.

إنه يجري في حزمة الضوء ، فإذا ماانحرفت هذه الحزمة على منعطف ، يسقط هو في الظلام.

إنه كمن يتناول الشراب المسكر الثقيل على الريق ، سرعان مايأخذه السكر ، ولايهم أن لايفقد رؤية عينيه ، إذ يكفي اختلال بصيرته ، ليسيء تقدير نفسه، ومحصل الحاصل أن يسيء التصرف.



- أكثر من ذلك تأملت الشمس. في الضيعة كنا نقول ، إذا ماغربت : غطست في البحر.

كنا نظن أنها تنش كفأس يخرجها الحداد من كيره ويقلبها في ماء غامر.

ومن هنا أراها ماضية فوق البحر واطئة ، مثلما كنا نراها فوق جبل الضيعة ، فنحسب أن أيدينا تطالها إذا ماصعدنا عليه ، أين إذا تغيب الشمس، وفي أي شيء؟



- ضمنياً ، لقد كنت إلى جانب الأبوين ، لاأدري لماذا أرغب أن يكون عدد أفراد الأسرة قليلاً.

وأنا صغير، كنت أهجس أن لو يموت شقيقي لأحظى باللحاف الكبير الذي استقل به في ناحية الخيمة.

خجلت كثيراً لما مات ، لتلك الهواجس. صرت أنظر إلى ذلك اللحاف ، وأحاسب نفسي ، أن تكون تلك الهواجس قد فعلت أفاعيلها.

ولم أتغطّ به ، رمته أمي في ناحية حائط الدار لاتقع عليها العين إلا قصداً ، حتى كاد يهترئ تحت المطر والريح والشمس.

أوحى أبي إلى ستي "بدرة" أن تنفض قطنه ، جعلته في قماش جديد ، وخصصناه للضيوف .

كيف أمحو هذه الرغبة من مطاوي نفسي؟

عودة