- وكان يقفز كفراشة حوصرت بعدد هائل من الأكف الساعية للقبض عليها.

يفتح باب الغرفة بكلتا يديه، ويسقط متهالكاً فوق فراش، منكباً على وجهه.. إلا أنه لامبرر لبكاء.. وماذا يعني أن أباه قد مات؟ ماذا يعني أنه أصبح يتيماً؟ وأن الله يكون بالعون؟ وأن أمه مسكينة؟

لاجواب لكل هذه الأسئلة الطلسم .. إلا الحزن الطفولي..



- هؤلاء خرجوا لوداعه الأخير.

لكن الجنازة كانت حاشدة، مليئة بالعيون الصغيرة البراقة..

كل تلاميذ مدرسته كانوا يسيرون خلف النعش بخشوع صادق، وحب حزين.

ووري المعلم التراب، اقترب تلميذ صغير، كانت قد جمدت في عينيه دمعة صغيرة كلؤلؤة ضائعة حائرة..

جثا على ركبتيه الناعمتين، وضع على تراب القبر قطعة من ورق مقوى، كتب عليها بخط غير منسق : صباح الخير ياأستاذ.



- وأنت تبتلع نفسك كفأر مذعور، أو كقنفذ هرم فقد الحول والقوة والحيلة، هذا هو عصر التقلص والحلزنة. فباسم الحب والصداقة والاهتمام بمصالحك، عليك أن تقوم بفعل واحد، هو أن لاتفعل أي شيء..

إلا أنك تنتفض في لحظة مرة حرجة، تكسر الأواني، وألواح الزجاج، والمقولات الطنانة والمواعظ الخيرة، وتمزق قوانين الأمومة والسير والمساجد...



- كنت تحس بأنك قادر على فعل أي شيء يخدم أي شيء، وتحب كل شيء من أجل عينيها وابتسامتها.. آه كم يسمو بنا الحب، ويجعل منا أناساً حقيقيين! وآه كم يقسو علينا الحب، ويجعل منا أناساً فاقدي الرشد شرسين.. فحين لم تعد كلمة حب تكفي وتنتظرك فتاتك لأن تفعل شيئاً غير النظر إليها بإعجاب هائل، لأن تقول لأبيها شيئاً مهماً، يضع النقاط على الحروف.. لكنك عاجز عن الفعل فلازلت قاصراً، وغير قادر على حزم أمرك..

حينها يبدأ صباح شتوي، يوزع مع نقاط مطره أخبارها على كل بيت..



- لماذا ينتحر امرؤ كهذا؟

لماذا لم يفكر أحدنا بأن يفهم شيئاً عنه ولم نحس به إلا قرفاص واسياء.. ولم نقابله إلا بالضحك خلسة والتغامز عليه.. لماذا لم نتعب أنفسنا لمعرفة سبب أفعاله الغريبة والنشاز؟.. لماذا ترفعنا عنه ولم نشاركه؟

لقد كنا نوعاً من المجرمين المهذبين المترفعين الذين لايمكن أن يطالهم القانون..

لقد أرادنا أن نفتح آذاننا وعيوننا وقلوبنا لكل العابرين.. لابد أنه فقد كل أمل فقرر أن يبصق على العالم بصقته الأخيرة ويموت،أراد أن يهزأ من توازننا المقيت المفتعل، وأن يضع خطاً صغيراً تحت لاإنسانيتنا.. ويمضي.. ساخراً.. ضاحكاً.. غريباً.. وحيداً.. وحزيناً...

عودة