- كان طيف سارة يلاحقني كاللعنة، طوال هذه السنوات من غيابها المفاجئ، حتى أنني حين قررت طلاء الغرفة، اشترطت على عامل الدهان ألا يقترب بفرشاته من الجدار الذي يحمل ذكرياتها وخربشاتها، وعبارتها الأثيرة التي كتبتها بعد شهرين من تعرفي إليها: أنت وحدك جهتي الخامسة

هكذا بممحاة سحرية وبضعة أسطر في بطاقة بريدية، نسيت كل الآلام التي خلفتها سارة صالح في أعماقي، منذ أن لمحتها لأول مرة بشعرها الأجعد وسحنتها السمراء في مدرج كلية الآداب، في جامعة دمشق، إلى اللحظة التي عانقتني فيها فور خروجها من الباب، عند أول درجة في السلم، قبل أن تختفي إلى الأبد.



- ألقيت كتاب " إيماءات ريتسوس " جانباً، وقلت: كانت ليلة أمس، ليلة مجنونة، ثم عرفتها إلى أسمي، فأغلقت عينيها قليلاً وبادرت إلى معانقتي، وقد مدت ذراعيها على اتساعهما، مبدية شكرها العميق تجاه ماكتبته عن قصيدتها، ومؤكدة على حسّي النقدي في التقاط تفاصيل لم تنتبه هي إليها في الأصل، وقد تجاهلت كل مايتعلق بليلة الأمس، الأمر الذي شجعني على الاعتراف أمامها، أنني حين كتبت عنها، كنت أعول في الدرجة الأولى على شيء واحد فقط، هو التعرف إلى هذه " اللبوة " عن كثب.



- "سارة" .. إنني أقضم الياسمين وحيداً على أرصفة اليأس. أرصفة دمشق وشوارعها التي تعرفينها والتي لاتعرفينها، لقد تغيرت أشياء كثيرة في غيابك، فالرعد الذي لا ماء معه لاينبت العشب، وحده الياسمين ازداد بياضاً وسط رماد الأشياء والكائنات، فما كان يثير الدهشة أو الريبة، صار شيئاً اعتيادياً في هذه المصحة كما أسميتها في بطاقتك البريدية التي وصلتني منك أخيراً.



- ماالذي يذكره المرء، وماالذي ينساه في أول رسالة أو آخر خطاب؟ الخط المزوق والكتابة المتأنية، لون الورق وشفافيته؟ النسخ وإعادة النسخ؟ التمزيق وتكراره، التأنق في الكلمة؟ توثب القلب عند البدء والختام، ارتعاشة الأنامل؟ القلق اللذيذ بانتظار الجواب؟

الرسائل الشخصية لاتقرأ من عنوانها كما يقرأ الكتاب ولامن آخر سطورها كما تقرأ الصحيفة. تلك الرسائل سرها في النقطة وعلامة التعجب وإشارة الاستفهام. والمحو والحك والشطب والايحاء واختلاجة الحروف عند التوقيع، بلاغة الرسائل الشخصية متأتية مما هو مكتوب بين السطور..

عودة