أبحث في كل مكان.. أجوب الجهات، أطوي البوادي والقفار. يطول انتظاري دون جدوى.

الأرض جرداء قاحلة إلا من بعض الأشواك والأعشاب الصغيرة.. تهزّها ريح السموم فتطأطئ رؤوسها ذاوية ذابلة، ثم يقبضها الموت بيد من حديد، فتستسلم يائسة، وكأن الموت أرحم بها من قسوة الحياة.

وهناك.. تبدو لناظري أشباح طويلة، هناك أرى أشجاراً صغيرة. أسرع إليها، أسألها حاجتي، ولكنني أرجع منها كئيباً يائساً، فقد جفّ منها النسغ واصفرّت الأوراق.

هبّت ريح صفراء، ودوّى في الكون صفير حاد.. يمزّق ستائر السكون، فتهلع القلوب وتستكين النفوس، وتتضاءل الآمال، وتذوي النار التي أشعلتها قروية حسناء، فتحاول أن توقدها من جديد.

دخان، ودخان، ودموع تسيل من العينين السوداوين. تهيئ الطعام لزوجها الذي غاب عنها. كان قد وعدها بفستان أزرق، يطول انتظارها. في عينيها الدامعتين ألم وأسى، في حلقها غصّة، وفي خاطرها سؤال: هل يتحقق حلمي؟ هل يشتري لي الفستان الأزرق؟

لكن هذا الموسم لم يكن أزرقاً، وها هي ريح السموم تحصد ما أنبتته الأرض وتنشر الموت في كل مكان.

اهتزّت وردة صغيرة، وانكمشت على نفسها. نظرت إليها مليّاً… كانت مختبئة بين أشواك يابسة. سالت من عيني دمعتان، تسرّبتا إلى جذرها، فتحرّكت في مكانها، ورفعت إليّ رأسها في خشوع وقالت:

-أتحاول أن تحييني بدمعتيك هاتين؟! حقاً.. إن في آلام الناس سعادة الناس. ولكن.. بماذا تراني أفيدك؟ وأية خدمة أقدّمها لك، وأنا أخطو الخطوة الأخيرة نحو حافة الهاوية؟

قلت: أريد حكمة.. عبرة للأحياء.

قالت: تأخرت كثيراً.

قلت: ليس ذنبي إن سلكت الطريق المستقيم، ولم أتسلّق أو ألتف.

قالت: أنا الآن في صحوة الموت، وما إن ينتهي لقاؤنا حتى أكون قد فارقت الحياة. هكذا الحياة.. غفلة أو صحوة موت. لقد وجدنا قبل أن نوجد، ومتنا قبل أن نموت. لكل منا قصة وفي كل قصة حكمة وعبرة.

قلت: سأجمع زهوراً ذابلة ورياحين يابسة، وإن جفّ النسغ في عروقها. فقد كان لكل منها عبير في يوم مضى.. كان لكل منها أمل ورغبة وقصة. ثم تبخّر الأمل وماتت الرغبة واكتملت القصة وإن كان قوس صغير ينقص الدائرة، ووجود بأكمله ينقص الوجود.

فقد علمتِني أيتها الزهرة الذابلة أن الحياة وليدة الموت، وأن دموع البؤس هي ذاتها جداول السعادة.



عودة