الصورة غير متوفرة

في عنفوان التشظي يقضم الأديب أعزَّ أحلامه، وأغلى أمانيه، يلمّ الفجر من ليل تناسل في الذاكرة، ليعيد طلاء الفصول، ويمسح الوجه الذاهل بحفنةٍ من صبرٍ جميل.

وأنا أكتب هذه الرواية التي أرّقتني، تراءت لي نوافذ الأحلام وهي تستجدي صلاة الريح، ودعاء الركّع السجود، والأرض محفورة بحوافر أحصنة القهر، تلتف عروقها حول أكوام من الصدأ وأكداس من العفونة...

تراءت لي همهمات الفرح تتسلل بفضول مثل قطط الأزقة ووجوه المحسنين، فكنت أتماهى في دروب الليل الطويل، أساهر نسيم الوديان والتلال العابقة بالذكريات، وأستعيد حوار العنادل بين أغصان الغَرَب والطرفاء، فأحمحم كفرس جندلت فارسها في لحظة المجابهة...

وأنا أكتب هذه الرواية تراءت لي دموع اليتامى، وشهقات الأيامى، وندب الثكالى، والألم يعتصر القلب حتَّى حدود السقم، وتراءى لي من احتضن كومة تراب بكر، يشمها بكبرياء ويقبّلها بإباء، ثمَّ يذروها برفق على أجساد من رحلوا، لتنبت أزاهير الخلاص...

أعترف بأن الأوهام قذفتني من شاسع السهد طويلاً، لكنها لم تستطع أن تنتزع من الذاكرة صور الوجوه الناحلة التي حاصرها النفي والتشرد والظلم، وهي تسطّر ملاحم خالدة في التضحية والإيثار...

لم تستطع أن تطمس في سِفر التاريخ حقبةً كانت بدايتها مؤلمة، ونهايتها مفرحة...

كانت البدايات سَوقيات الأرمن إلى دير الزور، إلى حيث الدفء والحنان عام 1915، وكانت النهايات سَوق الفرنسيين إلى حيث الخزي والعار عام 1946، ولعلّي من خلال هذه الرواية ألامس جانباً من الحقيقة التي لا تخفى، وأعبّر عن دقائق اللحظات الحرجة والألم الإنساني والصفاء الروحي والعزيمة المتوثبة التي كانت مشاعل نور تضيء عتمة الطريق ووحشة المكان، ورحم الله الأديب والروائي الكبير "عبد الرحمن منيف" حيث يقول في "الكاتب والمنفى":

«إن الأجيال القادمة لابدَّ أن تقرأ التاريخ الذي نعيشه الآن وغداً، ليس من كتب التاريخ المصقولة، وإنما من روايات هذا الجيل والأجيال القادمة».

دير الزور 10/7/2004

محمد رشيد رويلي



عودة