يكاد لا يوجد متحف في العالم إلا ويتباهى بوجود قسم للآثار السورية فيه، وينفرد متحف "برلين" بوجود قسم خاص لآثار "تل حلف" الذي له مع المتحف نفسه قصة يرويها لزائريه كل مرة.

"تل حلف" هو الاسم المعاصر لمدينة "جوزانا" السورية الآرامية، وتقع على الضفة الغربية لنهر الخابور، بالقرب من الحدود مع تركيا، وعلى بعد 2 كيلومتر جنوب غرب منطقة "رأس العين"، أسست كمدينة في الحقبة التي تلت انهيار الإمبراطورية الحثية بحدود الألف قبل الميلاد.

تعرض المتحف بما فيه إلى ضربات جوية أدت إلى دماره الكامل في العام 1943، وقد أوصى العالم "أوبنهايم" بوضع القطع المكسرة من التماثيل في صناديق والاحتفاظ بها في مستودعات تحت المتحف المذكور، وبقيت هناك إلى العام 1993، حين بدأ المتحف خطة جريئة لإعادة ترميم هذه القطع التي بلغ عددها 27 ألف قطعة

تتحدث الدكتورة "كريستين درويبل Kirsten Drüppel، من متحف "برلين"، وهي من العاملين في البعثة الألمانية للتنقيب في الموقع حتى العام 2010، لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 15 أيلول 2014، عن كيفية اكتشاف ووصول "آثار تل حلف" إلى المتحف، فتقول: «تم اكتشاف الموقع من قبل الدبلوماسي الألماني "ماكس فون أوبنهايم (1860ـ1946)"، الذي لم يكن عالماً أثرياً، ولكنه انتبه إلى وجود الآثار الضخمة حينما ظهرت أثناء قيام أهالي المنطقة بحفر قبور لدفن موتاهم في المنطقة، وكان ذلك عام 1911، وقضى "فون أوبنهايم" أربع سنوات تالية في حفر القصر الآرامي الذي يعود عهده إلى سلالة الملك الآرامي "كابارا بن قاديانو"، وعثر في أجزاء منه على تماثيل ضخمة لرموز وحيوانات مقدسة فريدة من نوعها، تم نقلها إلى "برلين" عن طريق سكة الحديد التي كانت تصل برلين ببغداد، في منطقة تقع شمال "سورية" عند الحدود مع تركيا، والمعروفة باسم قطار الشرق السريع».

الخراب يطول المتحف

دلت التنقيبات الأثرية على وجود الاستيطان في الموقع منذ الألف السادسة قبل الميلاد، لتنقطع في الحقبة التالية وتظهر من ثم عاصمة لمملكة "بيت بحياني" الآرامية التي تعد الأقوى بين ممالك الشمال الآرامية، وكان اسم المدينة عندها "جوزانا"، وفي القرن الثامن قبل الميلاد، أصبحت "جوزانا" مقاطعة آشورية شهيرة.

من أهم المكتشفات العائدة لهذا العصر إضافة إلى المساكن والبيوت، كما يقول الباحث "علي القيم" في مقال له ضمن مشروع "تل حلف"، والقصر الذي كشف فيه عن نقوش ومنحوتات تعود إلى عهد الملك "كابارا"، وقد شيد هذا القصر وفق المخطط المعروف بـ"بيت هيلاني" أي البيت العالي، وتألف من قاعة مستطيلة أولى تليها قاعة مستطيلة ثانية هي قاعة العرش، أمامها باحة مكشوفة مسوّرة، لها مدخل ضخم يليه درج كبير من الحجر المنحوت، وتم تزيين المدخل بمنحوتات حجرية ضخمة، ونقوش بارزة، وتتضمن هذه المنحوتات والنقوش جنوداً واقفين بأسلحتهم أو في وضع مبارزة أو صيد حيوانات مختلفة، إضافة إلى مخلوقات متمازجة تتضمن شكل الإنسان العقرب، الإنسان السمكة، الرجال الثيران، الأسود المجنحة، وشكل آدمي برأس أسد وغيرها، وتضم النقوش مشاهد الحرب والصيد والطيور، وصراع الوحوش وبعض الكائنات الخرافية، كما تضم مشاهد دينية ومشاهد قرابين، وقد وجد أيضاً مدفن ملكي يحتوي العديد من الأواني والتحف.

هكذا رتبت القطع الأثرية المكسرة

نقلت معظم هذه الآثار إلى متحف "بيرماغون" في "برلين" في العامين 1928-1929، وعرضت كما تقول الدكتورة "كريستين": "في جناح خاص حمل اسم "جناح تل حلف"، في العام التالي، وقد كان المتحف وقتها في منطقة Charlottenburg، وقد أعيد وقتها إنشاء بوابة المعبد المحمول على ثلاثة تماثيل كبيرة، وتم وضع بقية القطع في المتحف الخاص بالموقع".

«تعرض المتحف بما فيه إلى ضربات جوية أدت إلى دماره الكامل في العام 1943، وقد أوصى العالم "أوبنهايم" بوضع القطع المكسرة من التماثيل في صناديق والاحتفاظ بها في مستودعات تحت المتحف المذكور، وبقيت هناك إلى العام 1993، حين بدأ المتحف خطة جريئة لإعادة ترميم هذه القطع التي بلغ عددها 27 ألف قطعة».

أثناء ترميم الأسد

بدأت الخطة كما تقول الدكتور "كريستين" بفرز القطع المخزنة، ولم يكن من المفضل "إعادة إنشاء سطوح كاملة باستخدام المواد اللاصقة الحديثة، بل أن يترك أكبر قدر من الحجر الأصلي ظاهراً للعيان ولو بشكل مكسر، فالفكرة هي ليست تقديم نسخة أصلية مطابقة للنسخة الأصلية التي كانت على زمن "أوبنهايم"، بل تقديم الصورة الواقعية لما آلت إليه التماثيل".

على سبيل المثال، فإن رأس "الأسد" الذي تعرض للتكسر بشكل كبير، تساقطت عليه من السقف قطرات من القطران وملأت وجهه كما غيره، كذلك أدت الحرائق والمياه إلى ضغط كبير على البازلت مما تسبب بظهور شقوق في القطع المكسرة أيضاً، من هنا كان لا بد من استبدال بعض القطع بأخرى حديثة التكوين ولكن ذات لون مختلف إلى حد ما لتمييزها، وقد كانت النتيجة مرضية إلى حد كبير.

في 28 كانون الثاني 2011، تم افتتاح قسم "تل حلف" في متحف "برلين" بعد أن تم الانتهاء من ترميم أكثر من 500 قطعة أثرية تضم نحو 60 تمثالاً، ولوحات صخرية بارزة وأدوات وأشكال متنوعة غاية في الروعة، يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتشّكل فصلاً حضارياً رائعاً من تاريخ السوريين الآراميين في شمال "سورية"، وكان هذا الكنز الذي ظل منسّياً طوال عقود محور اهتمام ورعاية كبيرة من قبل السلطات الأثرية العالمية باعتباره إرثاً بشرياً، وقد أصبحت قطعه جزءاً من معروضات "بيرماغون" في جزيرة المتاحف الشهيرة في العاصمة الألمانية، التي تضم أيضاً بوابة "عشتار" البابلية الشهيرة (الأصلية).

اليوم على واجهة متحف "حلب" توجد نسخة مطابقة للبوابة الشهيرة لقصر الملك الآرامي "قاديانو" في حين مازالت النسخة الأصلية محفوظة في مكان ما، حفظاً لها من السرقة والتخريب، علماً أن التنقيبات التالية في الموقع أثمرت عن كثير من الخبايا المميزة، أبرزها "فخار تل حلف".