وسط مدينة "حلب" وعند نقطة تلاقي الطريق الدولي القادم من "دمشق" مع أحياء "الفيض" و"الإسماعلية"، يقع حي "المشارقة" القديم الذي يتميز بصبغته الشعبية الحلبية الخالصة المتمثلة في مرافقه العامة، وبمنازله وساكنيه التي تختلط مع ضجيج الحداثة وورش المحلات التجارية والصناعية لإصلاح وزينة السيارات التي لا تهدأ على مدار الساعة.

عن كثب

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار حي "المشارقة" الشعبي الكبير والواسع في مساحته وعدد سكانه، وتجول داخله عن كثب وشاهد معالم الحياة المتنوعة داخله وما يتميز به أبناؤه من حركة عمل ونشاط لا تكاد تهدأ.

كانت المحبة تجمعنا وكنا عندما نسمع عن خلاف جرى بين شخصين أو عائلتين، لا ننام حتى نحل ذلك الخلاف مهما كلف من مال وجاهة وحتى تعود الأمور لوضعها الطبيعي، لا بل أكثر من ذلك كان نقدم المساعدة للشباب أصحاب الدخل المحدود الذين يرغبون بالزواج، وكثيراً ما كنا نقوم بواجب تقديم العزاء أو مشاركة الأفراح للأحياء المجاورة لنا، وأجمل ما كان في حينا الدور العربية التي كنا نمتلكها وحافظنا عليها طويلاً، وكنا نذهب في فصلي الربيع والصيف مع طعامنا للجلوس على ضفاف نهر قويق الذي يمر قريباً منا

يجاور "حي المشارقة" من جوانبه الأربعة أحياء " الفيض" و"الكلاسة" و"بستاني القصر والزهرة" و"باب جنين" و"الإسماعيلية" و"تجميل المشارقة"، ويكاد يكون الحي الأهم والأكثر حيوية وحركة ونشاطاً بين تلك الأحياء.

"خالد عثمان" مختار حي المشارقة

وفي رواية للكاتب "حسين كعكة" -تعدُّ عائلته من أشهر قاطني حي "المشارقة"- كتب يقول: "نشأ الحي في عام 1600 ميلادي ومعظم سكانه جاؤوا من داخل المدينة القديمة بعد التوسع الذي أصاب تلك الأحياء، وسبب التسمية للحي يعود للأرض التي كان يقيم عليها عرب الشرق الذين كانوا يأتون إلى "حلب" من الجهة الشرقية ومن البادية الشامية للتسوق والتبضع وتبادل المنتوجات".

مبانٍ أثرية

كان أغلب سكان الحي في السابق يمتهنون الحرف اليدوية والتجارية والزراعية والحيوانية لقربهم من مجرى "نهر قويق"، لسهولة إرواء حيواناتهم من الأبقار والأغنام والماعز، وتميزت المنطقة بوجود بساتين خضراء وكان ذلك النهر مصدراً هاماً لحياتهم الزراعية والتجارية، وعمل أهل الحي على طحن الحبوب لاستخراج النشاء وبيعه في الأسواق الرئيسية للمدينة وأسواق المدن الأخرى.

ضريح المجاهد "إبراهيم هنانو" وسط حي "المشارقة"

وهناك داخل الحي عدة مبانٍ أثرية هامة مثل جامع الشيخ "طوغان" و"الشيخ إسكندر" و"المهندار" والتكية المولوية المعروفة باسم مولى خان، نسبة إلى "جلال الدين الرومي"، وفي وسط الحي وعلى تلة مرتفعة هناك نصب لضريح أحد قادة الثورة السورية الكبرى "إبراهيم هنانو"، ويمتاز الحي ببناء بيوته المتلاصقة على الطراز العربي القديم والذي يبدأ من شكله الخارجي، وهو الباب الخشبي الثقيل والمنقوش بالمسامير المعدنية ثم يليه الفناء والباحة الواسعة داخل الديار مع وجود نافورة الماء وأحواض الأزهار المنتشرة في الوسط وعلى الإدراج، ومن ثم بناء المربعات العلوية فوق البناء الأصلي، وأجمل الطقوس الحلبية في هذا الحي كانت تتجسد في شهر رمضان والأعياد من خلال تبادل وجبات الطعام والتزاور.

بالتوصيف

يقول مختار "حي المشارقة" "خالد عثمان": «يعد الحي من أهم وأكبر أحياء المدينة، ويكاد يغلب عليه الطابع الشعبي والتجاري والصناعي، ويبلغ عدد سكانه ما يقارب الخمسة وعشرين ألف نسمة وعدد بيوته خمسة آلاف وثمانمئة مسكن، وهو حي مكتظ ومزدحم بالسكان وبالحركة المرورية، وتنتشر في وسطه وبكثافة محلات تصليح وتصويج السيارات السياحية والعامة، ويضم بشكل خاص كافة مستلزمات الزينة للسيارات، وهناك مركزٌ لتوزيع الكتب والمطبوعات وسبعة أفران وثلاث محطات للوقود وورشات التطريز، وثلاثة مساجد أثرية هي "البواكب" ويوجد في داخله مزار لولي و"مسجد المزرعة" و "جلال الدين الأسيوطي" كم يضم عدداً كبيراً من العيادات والمخابر والصيدليات الطبية".

الحاج"أحمد كعكة" أحد أبناء حي المشارقة

عادات أصيلة

ويشير "عثمان" إلى ازدياد اهتمام الأهالي بالتعليم من خلال توجيه أبنائهم للدراسة والتعلم ودخول الجامعات على حساب تعلم المهن، ويلفت إلى ما يمتاز به أهالي الحي من البساطة، وتعاونهم ومساندتهم لبعضهم البعض بالأفراح والأحزان والمناسبات الاجتماعية والدينية، وهنالك فرقتان للرقص العربي تشارك أبناء الحي أفراحهم ومن أشهر العوائل التي قطنت وأسست هذا الحي آل "كعكة" و"مجدمي" و"الباش" و"حزيني" و"مدلل" و" زقلوطة" و"كردي" و"شحرور"و "تديلي"و عرعور" و"مصري" و"مؤذن" و"برغل" و"خوجة" و"ريحاوي" و"قهواتي" و"عرجا" و"قرقناوي" و"بيبي" و"غشيم"، وأغلب هذه العوائل متصاهرة مع بعضها في القرابة والنسب ومتشاركة في المهن والعمل وهم محافظون على عاداتهم وتقاليدهم، ورغم الزحف العمراني السريع الذي قضم بعض معالم الحي الأثرية إلا أنه ما زالت هنالك بعض الدور العربية موجودة ومحافظ عليها بكل طابعها العمراني الشرقي القديم مع ساكنيها.

شهادات حية

ويروي الحاج "أحمد كعكة" الكثير عن تفاصيل الحياة في الحي يالقول : «ولدت وعشت وعملت في هذا الحي مدة خمسين عاماً، وذكريات الطفولة والشباب ما زالت عالقة في مخيلتي بدءاً من بيتنا العربي الذي كان في وسط الحي، إلى الأهل والجيران والأحباب والأصدقاء، بعضهم ما زال على قيد الحياة وبعضهم غادرنا.. كنا نعيش كعائلة واحدة نتفقد ونزور بعضنا في المناسبات والأعياد ونحمل همومنا وأفراحنا ونقدم لبعضنا بعضاً العون والمساعدة، وكان لدينا مجلس أعيان بالحارة مهمتهم دعم حاجات العوائل الفقيرة ومتابعة مختلف الأمور والخدمات العامة، ولهذا الحي طابعه الخاص بالمحافظة على العادات والتقاليد العربية وفي كافة الجوانب والأمور».

أما الحاج "صالح بليد" يقول: «كانت المحبة تجمعنا وكنا عندما نسمع عن خلاف جرى بين شخصين أو عائلتين، لا ننام حتى نحل ذلك الخلاف مهما كلف من مال وجاهة وحتى تعود الأمور لوضعها الطبيعي، لا بل أكثر من ذلك كان نقدم المساعدة للشباب أصحاب الدخل المحدود الذين يرغبون بالزواج، وكثيراً ما كنا نقوم بواجب تقديم العزاء أو مشاركة الأفراح للأحياء المجاورة لنا، وأجمل ما كان في حينا الدور العربية التي كنا نمتلكها وحافظنا عليها طويلاً، وكنا نذهب في فصلي الربيع والصيف مع طعامنا للجلوس على ضفاف نهر قويق الذي يمر قريباً منا».

جرت اللقاءات والتصوير من داخل حي "المشارقة" بتاريخ الثامن عشر من تموز عام 2021.