ازدهر العلم في مدينة "حلب"ازدهاراً كبيراً في القرون الماضية وليس أدل على ذلك من انتشار المدارس القديمة التي تعود إلى عصور و عهود مختلفة لعبت خلالها أدواراً هامة وكان لها مركزا مرموقا، ومن هذه المدارس الكثيرة المدرسة "الظاهرية" البرانية التي مازالت جدرانها الشاهقة تتحدى الأيام وتستقبل طلبة العلم باستمرار.

تقع المدرسة "الظاهرية" في حي "الفردوس"الشعبي على بعد حوالي 650 متراً جنوب غرب باب "المقام"، وهي عبارة عن بناء ضخم بجدران عالية جداً وحجارة هرقلية، وهي مؤلفة من طابقين بشكل مستطيل يحصر ضمنه ساحة واسعة تضم نافورة ماء صغيرة تحيط بها شجيرات و ورود ورياحين صغيرة، وكان الطابق العلوي على الأغلب يستخدم لنوم و مبيت طلاب العلم الشرعي، بينما تستخدم قاعات الطابق السفلي للتدريس، وهي عبارة عن غرف مختلفة الأحجام تضم وسائل التدريس البسيطة، ويوجد في ساحة المدرسة أعمدة رائعة الجمال مصنوعة من المرمر الأصفر، وقد حافظت المدرسة"الظاهرية"على شكلها و بنائها ولم تتأثر بأي من الزلازل التي تعرضت لها "حلب"منذ العصور الوسطى.

بالنسبة لهذه المدرسة و تاريخها مهما تحدثنا لا نفيها حقها، و أذكر مثالاً حديثاً يدل على مكانتها، فقد زارنا منذ حوالي /20/ يوم وفد من "اليابان" من القناة التلفزيونية الثانية من أجل تصوير برنامج حول الوقف و تأثيره على المجتمع، و قد تم اختيار مكان واحد فقط من "حلب" ألا و هو المدرسة "الظاهرية"، و هذا يدل على مكانتها وعراقتها، وقد أعجب الوفد جداً بها و بالإصلاحات التي تمت فيها

بنيت المدرسة "الظاهرية" البرانية في العصر الذهبي لازدهار المدارس "الأيوبية"، وقد قامت ببنائها الملكة "ضيفة خاتون" زوجة الظاهر "غازي" أبن "صلاح الدين الأيوبي"الذي كان ملك "حلب" في تلك الحقبة، بدأ العمل ببناء المدرسة سنة /633هجري/، /1235/ميلادي وانتهى العمل بها سنة /634هجري/،/1236ميلادي/، يبلغ طول المدرسة حوالي /55/متر وعرضها حوالي /44/متر، فهي مدرسة عريقة ضمت إلى جانب ذلك ضريحاً و"خانقاه" للمسافرين كما أقامت فيها فرقة منشدين وبعض الفقهاء والمتصوفين، وتعتبر المدرسة "الظاهرية"البرانية من أجمل مدارس العالم الإسلامي وكانت سابقاً من أشهر مدارس العلوم الشرعية التي تدرس الفقه على المذهب "الشافعي" ولذلك كان يطلق عليها اسم المدرسة "الشافعية"، ويقال بأن "ضيفة خاتون" قد جعلت جدران المدرسة عالية جداً من أجل منع وصول الضجيج والضوضاء لطلاب المدرسة.

على يمين الإيوان الموجود في ساحة المدرسة كتبت العبارات التالية:بسم الله الرحمن الرحيم:لله در أقوام إذا جن عليهم الليل سمعت لهم أنين و ألحان، وإذا أصبحوا رأيت عليهم تغير ألوان، إذا ما الليل أقبل كابدوه ويسفر عنهم وهم ركوع، أطار الشوق نومهم فقاموا و أهل الأمن في الدنيا هجوع، أجسادهم تصبر على التعبد، وأقدامهم ليلها تقيم على التهجد، لا يرد لهم صوت ولا دعاء، تراهم في ليلهم سجداً ركعاً وقد ناداهم المنادي و أطربهم الشادي.

وفي صدر الإيوان كتبت الأبيات الشعرية التالية:

يا رجال الليل جدوا رب صوت لا يرد

ما يقوم الليــــل إلا من له حزم وجــــد

استمرت المدرسة "الظاهرية"بتدريس القرآن و العلوم الشرعية لعدة سنوات، ثم أهملت لفترة طويلة من الزمن إلى أن قامت وزارتا الأوقاف و السياحة منذ حوالي ثلاث سنوات بترميمها و إعادة تأهيلها من جديد لتعود إلى عصرها الذهبي الذي كانت عليه، حيث تحولت الآن إلى معهد لتحفيظ القرآن الكريم ضمن خطة وزارة الأوقاف و الشروط التي وضعتها لمعاهد "الأسد" لتحفيظ القرآن الكريم،وهي تضم بين جدرانها مئات الطلاب والطالبات الذين ينهلون من العلوم الشرعية على اختلاف أنواعها.

على هامش زيارتنا لهذه المدرسة، التقى موقع "حلب"، "محمد الأحمد" المدير المسائي في هذه المدرسة، الذي حدثنا عن نظام التعليم فيها فقال:«ينقسم الدوام عندنا إلى دوام صباحي و دوام مسائي، حيث يستطيع الطالب أن يختار الدوام المناسب لدوامه في المدرسة الحكومية، وندرس هنا القرآن و علومه فقط وفق المنهج الذي وضعته وزارة الأوقاف لمعاهد "الأسد" لتحفيظ القرآن الكريم، حيث تتبع مدرستنا لهذه المعاهد، لدينا في المدرسة حوالي /400/ طالب، و يشرف على تدريسهم مدرسون مجازون في حفظ القرآن الكريم و في الغالب يكونون حملة إجازة في الشريعة و العلوم الشرعية، وهم جميعاً من المتطوعين و لا يحصلون على رواتب، فقط إذا جاءتنا تبرعات نقوم بتوزيع قسم منها على المدرسين من أجل مساعدتهم مادياً ».

وعن تاريخ هذه المدرسة العريقة و مكانتها تابع "محمد الأحمد" حديثه فقال:«بالنسبة لهذه المدرسة و تاريخها مهما تحدثنا لا نفيها حقها، و أذكر مثالاً حديثاً يدل على مكانتها، فقد زارنا منذ حوالي /20/ يوم وفد من "اليابان" من القناة التلفزيونية الثانية من أجل تصوير برنامج حول الوقف و تأثيره على المجتمع، و قد تم اختيار مكان واحد فقط من "حلب" ألا و هو المدرسة "الظاهرية"، و هذا يدل على مكانتها وعراقتها، وقد أعجب الوفد جداً بها و بالإصلاحات التي تمت فيها».

و التقينا "يوسف أبو عباية" عضو مجلس المدينة و المسؤول عن القطاع الذي يضم المدرسة "الظاهرية"، فحدثنا عنها قائلاً:«المدرسة "الظاهرية" من المدارس الهامة ليس فقط في مدينة "حلب" بل في القطر بأكمله لما كان لهذه المدرسة من أهمية تاريخية عظيمة، و يتبع لهذه المدرسة قبة صغيرة تقع في مقبرة جنوب المدرسة و تبعد عنها حوالي /500/متر، و يعتقد أن هذه القبة كانت في الماضي حمام يستحم فيه القادم من السفر ثم يتجه إلى المدرسة، و لكن مع الأسف فهذه القبة مهملة تماماً و قليلون هم الذين يعرفون تاريخها و مكانتها، و نحن نعمل لكي نعيد لهذه القبة مكانتها التاريخية و نخلصها من أسرها بعد أن أحاطت بها البيوت المخالفة من كل الجهات».

كما التقينا على هامش زيارتنا لهذه المدرسة، "خالد المصطفى" أحد القاطنين بجوار هذه المدرسة فحدثنا عنها قائلاً:«كان ترميم هذه المدرسة من قبل وزارة الأوقاف و وزارة السياحة أمراً غاية في الأهمية نظراً لأهمية هذه المدرسة تاريخياً، والحمد لله فقد عادت لها مكانتها بعد أن أهملت فترة طويلة من الزمن، و بصراحة أقول بأننا كنا نعاني هنا من هذه المدرسة قبل ترميمها، بسبب اجتماع الشبان والمراهقين فيها و إصدار أصوات مزعجة ومقلقة، أما الآن فنحن نشعر بسعادة غامرة عندما نرى هؤلاء الأطفال الصغار و هم يتوجهون إليها من أجل طلب العلم و حفظ القرآن الكريم».

يذكر أن مدينة "حلب"تضم العديد من المدارس الهامة والمشهورة والتي كان لها مكانة تاريخية عظيمة نذكر منها المدرسة"الحلوية"، المدرسة"الأحمدية"، المدرسة"الشعبانية"، المدرسة"الخسروية"، المدرسة"الصاحبية" وغيرها من المدارس التي تخرج من صفوفها عدد من كبار علماء مدينة "حلب"في مجال العلوم الشرعية.

المصادر التاريخية:

كتاب "حلب" ترحب بكم للمؤلف "عامر رشيد مبيض"