أديب اتخذ لنفسه طريقاً جديداً تكلل بالنجاح والتميز، استطاع أن يطوّع قلمه لترجمة ما بداخله من مشاعرَ تحاكي فكر القرّاء، سلاحه الكلمة، وقضيته ممتلئة بالحب والعطاء بلا حدود، أديب ومثقف مبدع لأجناس الأدب جمعيها، بدأ عشقه من "حلب" ليعانق التاريخ في "قاسيون".

مدونة وطن "eSyria" زارت د. "نضال الصالح" في مكتبه بـ"دمشق" بتاريخ 24 شباط 2018، والتقته ليحدثنا عنه قائلاً: «في حي ينام على زند قلعة "حلب" ومن أحد أبوابها القديمة "باب المقام" رأيتُ النور في قبو معتم في دار عربية قديمة، لكنها منفتحة على سماء شاسعة الضوء. ولدتُ لأبوينِ لم ينالا أي قسط من التعليم، لكنهما كانا حريصين على متابعة تحصيلنا العلمي لأعلى المراحل.

بكيتُ مرتين كما لم أبكِ في حياتي الأولى: عندما توفيت أمي، فأحسست بأنني فقدتُ روحاً لم تشبهها روح، والثانية عندما رأيتُ مكتبتي المؤلفة من سبعة آلاف كتاب جنيتها من عرق جبيني من كافة أنحاء العالم أصبحت رماداً، وشهادات التقدير التي كنت أتباهى بها وهي تزين جدران غرفتي، والميداليات التي حصلتُ عليها من مؤسسات ثقافية وجامعات عربية مختلفة قد تحطمت وتحولت إلى حديد مصهور، بسبب ما فعله أعداء الوطن في منزلي، أحسست بأن روحي تكاد تغادرني تماماً. عزائي أن مكتبتي ليست أغلى من هؤلاء الشهداء الذين دافعوا عن "سورية"، وليست أغلى من حبة تراب من أرضها

تلقيت تعليمي الابتدائي في المدارس العامة، وكانت عائلتي في عوز، وكنت طالباً عادياً في تحصيلي حتى الصف الخامس حين تلقيتُ تقريعاً من خالتي حين شاهدتني أكتبُ وظيفتي، وعلقت: أنني يجب أن أخرج من المدرسة وأعين عائلتي، فتركت هذه الكلمة أثراً قاسياً في روحي، ماذا يعني أن يكون الإنسان فقيراً؟ هل يعني ذلك أّلّا يكون له حق في التعليم، أو يحمل شهادة دراسيّة؟ ومنذ ذلك الوقت وجدتُ نفسي أمام خيارات تكاد تضيق بها الأرض؛ أن أدرسَ وأدرسَ حتى أحصل على أعلى شهادة؛ وهذا ما كان.

د."نضال الصالح" خلال تكريمه

في المرحلة الإعدادية انتقلت إلى مدينة "الطبقة" ليعمل أبي بمشروع بناء سد "الفرات"، وهناك تعلمت نظاماً حياتياً جديداً، وتعلمتُ قيمتين أساسيتن في الحياة: قيمة احترام المرأة؛ لأنني درستُ في مدرسة مختلطة، وقيمة التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي؛ لأن مدينة "الطبقة" كانت "سورية الصغرى".

حصلتُ غير مرة على الشهادة الثانوية وفي أوقات متفاوتة، ولم يحالفني الحظ أن أسجل في الجامعة في الفرع الذي أحلم به، فمضت السنون بين دراسة في الصف الخاص وخدمة العلم والالتحاق بجامعة "بيروت العربية"، قسم الفلسفة، وتوقفتُ في السنة الثالثة بسبب الاجتياح الصهيوني لـ"لبنان"، وهنا كنتُ قد أنهيت خدمة العلم وعدت أدراجي إلى "حلب"، لأقدم الشهادة الثانوية مرة أخرى وأدخل قسم اللغة العربية وأتدرج في دراستها حتى نلتُ الماجستير بدرجة الشرف.

د."الصالح" أثناء إلقاء كلمة

ثم سجلتُ للحصول على شهادة الدكتوراه، ونوقشت رسالتي وحصلتُ فيها على أعلى درجة تمنحها الجامعات السورية أيضاً. دخلت معترك العمل وتدرّجتُ في وظائف عدّة في مدينة "حلب"، إلى أن شرفني رئيس الجمهورية منذ عدة سنوات بتسميتي معاوناً لوزير الثقافة، ووجدت نفسي في "دمشق" مكرهاً على مغادرة مدينة "حلب" التي أعشق حجارتها حجراً حجراً، بل تربطني بها علاقة تبلغ حدّ التصوف.

لم أكن أتصور أنني سأحب "دمشق"؛ لأنني لم أكن أصدق أن الحبل السري الذي يربطني بمدينة "حلب" يمكن أن ينقطع يوماً، لكن "دمشق" تمكنت من أن تصبح (ضرةً) لـ"حلب" وتنازعها في هذا الحب.

الكاتب والصحفي "نذير جعفر"

وهنا وجدتُ نفسي أعمل على غير جبهة: جبهة الكتابة، وجبهة المقاومة، وآمنتُ إيماناً قاطعاً بأن الكلمة شريك حقيقي في معركة المواجهة مع الأعداء لأسباب عدة، فاعتذرت عن مهمتي معاوناً لوزير الثقافة، وكان عليّ أن أعود إلى "حلب"، لكنني وجدتُ نفسي أمام خيار جديد في "دمشق"؛ وهو إدارة معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها الذي عملت فيه مدة سنتين، وكانت من أسعد السنوات في حياتي.

ثم كانت انتخابات اتحاد الكتاب العرب؛ لأتشرف برئاسة هذه المنظمة التي مضى على عضويتي فيها نحو سبعٍ وعشرين سنة لم أكن أتصور يوماً ما أن أكون رئيساً لاتحاد الكتاب العرب، كان لدي شاغل آخر في الحياة، وهو أن أكتب وأكتب وأقرأ، وأن يكون لي حضوري في الحياة الثقافية العربية، وقد أنجزت ذلك، واستطعت أن أكون واحداً من الذين يحرسون "سورية" ويدافعون عنها، ويشار إليهم بالبنان عندما يتم الحديث عن الثقافة العربية أيضاً».

وتابع: «كان شغفي بالقراءة منذ وقت مبكر من حياتي؛ لذلك كنتُ متفوقاً في اللغة العربية؛ ففي الصف الثاني الإعدادي طلب مدرس اللغة العربية أن أقرأ موضوع الإنشاء الذي كتبته؛ وهو عبارة عن قصة، عندها عنّفني الأستاذ قائلاً: "يا بني في المرّةِ الثانية، اكتب بنفسكَ، ولا تسرق من الآخرين"، فأقسمت لهُ أن الموضوع هو من صنع روحي، وعندما تأكد له ذلك، فوجئت بعد أشهر قليلة بدخوله إلى الصف، وكان يحمل حقيبة جلدية سوداء بين يديه؛ فتحها وأخرج منها مجلة، وقال: هذه القصة التي كتبها زميلكم "نضال صالح" منشورة في أرقى مجلة في "سورية"؛ مجلة "المعلم العربي" الذي كان يرأس تحريرها الراحل الكبير "سليمان العيسى"، تلك القصة وضعتني أيضاً أمام تحدٍ؛ أن أثقف نفسي، وأقرأ المزيد والمزيد».

وعن مؤلفاته قال: «وأنا طالب نشرتُ مجموعة من النصوص الشعرية، لكنني اكتشفت أنه لا يمكنني أن أكون شاعراً كبيراً أزاحم "نزار قباني" أو "محمود درويش"، فاخترت كتابة القصة القصيرة، وكان شرفٌ لي أن تحوز أول مجموعة قصصية "مكابدات يقظان البصيري" جائزة أدبية عربية على مستوى الوطن العربي، وأن تطبع هذه المجموعة في أرقى مؤسسة ثقافة عربية؛ وهي "الهيئة المصرية العامة" للكتاب، وأن أكرّم في "القاهرة" وأنا فتى شاب، وتسلمني الجائزة قامات ثقافية كبرى، ويكتب كلمة الغلاف شيخ القصة العربية الراحل الكبير "يوسف إدريس"، فوزي بهذه الجائزة وضعني أمام تحدٍّ جديد ومسؤوليةٍ كبيرة.

ثم جاءت مجموعتي الثانية "الأفعال الناقصة"، التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب، وعلى ضوئها صرت عضواً في الاتحاد.

أصدرت عدة مؤلفات في هذا المجال، ومن اللافت للنظر أن أول كتاب لي في أي جنس أدبي كان يحصل على جائزة عربية، ثم تتالت المؤلفات والكتب حتى بلغت حتى الآن ستة عشر كتاباً.

ثمّة كتب تمثل بالنسبة لي علامات مضيئة؛ وهي الكتب الثلاثة الأخيرة التي صدرت: "توت شامي"، "قدك المياس"، و"درب حلب"؛ لأنها تحكي عن الحرب على "سورية" عبر لغة أدبية خاصة استطعت أن أبني جنساً أدبياً جديداً في التاريخ، الذي لا يمتثل لتقاليد الكتابة السردية؛ هو شعرٌ، هو قصة قصيرة، هو تاريخ، هو مسرح في الوقت نفسه، هذه الأجناس الأدبية كلها صهرتها في كتابة جديدة في هذه المؤلفات الثلاثة التي تمثل لي علامات شديدة الضوء في روحي، من دون أن يعني ذلك أن الكتب الأخرى لم تكن أثيرة قلبي؛ فمجموعتي القصصية الأولى هي التي مكنتني من أن يكون لي حضوري في الحياة الثقافية العربية، وتدفعني إلى الكتابة أيضاً.

الرواية الأولى "جمر الموتى"، وكتابي النقدي الأول "تحولات الرمل"، لكن الحرب المجنونة ضد وطني -على الرغم من قسوتها ووحشيتها- استنفرت طاقة كامنة في داخلي، فأعادتني إلى كتابة القصة القصيرة التي هجرتها».

وختم قائلاً: «بكيتُ مرتين كما لم أبكِ في حياتي الأولى: عندما توفيت أمي، فأحسست بأنني فقدتُ روحاً لم تشبهها روح، والثانية عندما رأيتُ مكتبتي المؤلفة من سبعة آلاف كتاب جنيتها من عرق جبيني من كافة أنحاء العالم أصبحت رماداً، وشهادات التقدير التي كنت أتباهى بها وهي تزين جدران غرفتي، والميداليات التي حصلتُ عليها من مؤسسات ثقافية وجامعات عربية مختلفة قد تحطمت وتحولت إلى حديد مصهور، بسبب ما فعله أعداء الوطن في منزلي، أحسست بأن روحي تكاد تغادرني تماماً.

عزائي أن مكتبتي ليست أغلى من هؤلاء الشهداء الذين دافعوا عن "سورية"، وليست أغلى من حبة تراب من أرضها».

الكاتب والصحفي "نذير جعفر" قال: «د. "نضال الصالح" مثقف من طراز رفيع، عرفته صديقاً وإنساناً ومبدعاً وناقداً منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم. وضمتنا معاً أمسيات وندوات عدة في "حلب" و"دمشق" ومختلف المدن السورية، كان وما يزال وطنيّاً، محبّاً، وفيّاً، وجريئاً في قول الحق غير آبه بحياته التي خاطر بها فعلاً لا قولاً عندما هُدّد وهُدر دمه وهُجّر من بيته ومدينته عقاباً له على انتمائه إلى "سورية" التنوير والحداثة، لا الظلام والتكفير.

"نضال الصالح" رجل بقلب طفل وعناد محارب، لا يعرف المناورة والمداورة والمجاملة، يجاهر بحبه وكراهيته، ويحتج على الخطأ مسكوناً بثورة دائمة على تحطيم الأوثان، والخروج على ثقافة القطيع وقطيع الثقافة، ومن هنا كثر خصومه، وقلّ محبوه.

وفي النقد التطبيقي قدم تجربة مفارقة للمشهد الثقافي السائد شكلاً ومحتوى، وشق طريقه عصامياً في صخر الحياة وآلامها بحبر قلبه وعرق جبينه، وخطّ لنفسه رؤيته الخاصة التي لا تنبهر بالآخر أو تنسجُ على منواله، بل تحاوره، فلم يكن يوماً أسير النصوص أو الأسماء، بل يشاهدها على حقيقتها ويعطيها حقها.

إن "نضال" لم يعد اليوم بحاجة إلى الإطراء؛ فحضوره وما حصل عليه من جوائز، وما شارك فيه من مؤتمرات في الثقافة العربية وما قدمه سواء على مستوى النقد الأدبي أم التدريس في الجامعات، أم في استبساله لعقد اجتماع الأدباء العرب في "دمشق" يشهد له وينصفه»

يذكر أن "الصالح" مساعد للأمين العام للاتحاد العام للكُتّاب العرب في الوطن العربي، وهو من مواليد عام 1957.