هي حالة الالتحام مع الأدب، ولعلها كينونة التأمل الممتع. تلك هي الحالة التي سترافقك وأنت تستمع لقصائدها وهي تعتلي صهوة المنبر، أو أنك تقرأ أحد نصوصها الأدبية.

ولن نسهب في الحديث كثيرا. لندع للأديبة الدكتورة "بهيجة مصري إدلبي" حقها في تقديم ذلك من خلال الحوار الذي أجريناه معها في موقع eAleppo بتاريخ 18/11/2011.

الإحساس بالجمال أفضل من معرفة الطريقة التي نحس بها

  • في كتاب السيرة الذاتية في الخطاب الروائي العربي قلت: الكتابة بحد ذاتها إنما هي فعل وجود يبحث الكائن / المبدع من خلالها عن وجوده. والسؤال ما ماهية ذاك الوجود في كتابات؟
  • ** التفكير في ماهية الوجود، يقودنا إلى التفكير في الوجود ذاته، وخاصة بما يتصل بفعل الكتابة التي هي تأويل بشكل من الأشكال لوجودنا، لأنها قبل أن تتشكل في ماهية الكلمات، إنما تتشكل في حروف النفس، وماهية الروح، وبالتالي هي الصياغة الأخرى لظل الكائن، وكما يقول "أبو البركات البغدادي" في كتاب (المعتبر في الحكمة): «الوجود أظهر من كل ظاهر، وأخفى من كل خفي، أما ظهوره فلأن من يشعر به يشعر بوجوده وكل من شعر بفعله شعر معه بذاته الفاعلة ووجودها ووجود ما يوجد عنها، ويصدر من الفعل، فمن يشعر بذاته يشعر بالوجود أي وجود ذاته، ومن يشعر بفعله يشعر بالفعل والفاعل». أي إن الكائن كما يرى يشعر بآنية الوجود، ولا يشعر بماهيته، والآنية هي التحقق العيني للوجود، ومن هنا أرى أن الماهية لا تدرك لأن إدراكها رهن بإدراك المسافة بين الكائن في تشكله المادي وبين جوهره الروحي، وذلك لأن الماهية مكمنها خفي، لكنها وراء كل أفعالنا وخاصة فعل الكتابة.

  • في إحدى حواراتك الصحفية قلت: "الأدب رسالة، والرسالة لابد أن تصل أولا إلى مَنْ تُكتب من أجلهم". ونحن نسأل عن تلك الرسالة، وأولئك الذين تكتبين عنهم؟
  • في مهرجان عمر أ بو ريشة الدورة الأ ولى 2011

    ** لا تعني الرسالة في الإبداع تفعيل الجوانب المباشرة للحياة، وإنما وعيها، واستيعابها، وبالتالي تحقيق المعنى الجمالي والمتعة الجمالية في النص، دون أن نغفل الفعل الآخر فيه وهو التجربة المعرفية التي هي بمثابة الخلفية الظلية لأي نص إبداعي، ومن هنا تصبح الرسالة تحقيق حالة إيقاعية بين النص وبين المتلقي، هذه الإيقاعية هي التي تتأسس عليها الحياة لأن الحياة كما يقول "باشلار" من حيث أساسها المادي ينبغي أن تكون لها خواص إيقاعية في العمق ومن هنا يصبح الشعر- بما ينطوي عليه- تنسيقا لإيقاعات المتلقي في ذاته، حيث يدرك الشاعر الرسالة التي تتموضع في رؤى النص، والتي تفعل فعل التغيير في المتلقي سواء التغيير المادي أو الجمالي لأن الشعر لا يعالج الناس، وإنما يخلخل وعيهم المألوف فيقودهم إلى التأمل في وعي مختلف، ربما أدركوا من خلاله حقيقة وجودهم، وبالتالي كما يقول "باشلار" أيضا: «إن أي قصور في وظيفة اللاواقع سوف يعيق النفس المبدعة، وإذا عجزنا عن التخيل فسوف نعجز عن التنبؤ ». والشعر كما أرى نبوءة في الكشف عن أسرار الحياة.

  • وصفتِ يوما الشعر بأنه "شجرة الروح"، فإذا سألنا عن جذور وأغصان وثمار تلك الروح ماذا تحدثيننا؟
  • من مؤلفاتها

    ** أن يكون الشعر شجرة الروح يعني أن يكون في منبت الجوهر الشعري في ماهية السر الإنساني، ولأنه تحقيق لماهية اللغة عندما يتجسد كنص، فهو تكثيف لجوانب الغموض الكامنة في معنى الإنسان، وبالتالي يتجذر في عمق الكائن لتصبح أغصانه وثماره متفرعة في تحقيق اللحظة الجمالية التي تحفّز في اللغة غموضها، كما تحفّز في الكائن عتمته، فهي المكمن الجوهري للشعر أو الإبداع ذاته، وبذلك يخلق الشعر إحساسنا بالجمال وكما "يقول جورج سانتيانا": «الإحساس بالجمال أفضل من معرفة الطريقة التي نحس بها». لذلك كل ما يتفرع عن هذه الشجرة إنما هو يتشابك بأحاسيسنا.

    فالنص كما جاء في دراسة للدكتور "جمال مقابلة" عندما يتشكل في منجزه المادي لا يعني إنه ثابت متحجر فهو في حقيقته يقوم على حفظ أسطورة الكاتب الخاصة به، ومن هنا تصبح هذه الأسطورة هي الفعل الذاتي الذي يفرع أغصان الدهشة في المتلقي ويخصّب الوعي الجمالي في داخله، وليس أجدر من الجمال في تغيير الكائن وخلقه خلقا جديدا.

  • ترين أن الغموض روح الشعر، ما هي تلك العوالم التي تخفيها قصائدك وتطلبين من القارئ استكشافها؟
  • ** كما قلت في جوابي عن ماهية الوجود، فالشعر هو بحث في هذه الماهية، ولأن الماهية غامضة تفعل أحاسيسنا دون أن ندركها، فالشعر كذلك يتجه إلى الجوانب الغامضة في الحياة لأنه يعيد تفعيل وعينا بذلك الغموض، ويعيد تفعيل الأسئلة التي أقلقتنا وتقلقنا عن سر وجودنا، حتى وإن أصبحت كامنة فينا، فهو يحركها من جديد، وبهذا الجدل بين الإنسان وسؤاله الأزلي تنجز القصيدة الحقيقية ذاتها، وهذا ما أريد من القارئ أن يبحث عنه في قصائدي، لأن النص الشعري لدي نص معرفي بخصوبة جمالية، وهذه المعرفة المخصبة جماليا هي التي تخلق لدى المتلقي متعته ولذة تلقيه للنص الشعري.

  • العمق، الأناقة، الصوفية، الكثافة، كلها صفات أُطلقت على اللغة التي تكتبين بها، وأنت القائلة إن الشعر لديك ليس لعبة لغوية بل لغة مجنونة. دعينا نسأل عن خفايا هذه الصفات في لغتك الأدبية؟
  • ** صحيح إن الشعر ليس لعبة لغوية بالمعنى المجاني لهذه الكلمة، ولكنه شغل في اللغة وحفر في ماهيتها، وإعادة لتشكيل معناها، لأن اللغة كأي كائن حي، إذا لم نحفّز النبض داخله قد يصاب بالخمول والركود وبالتالي الموت. وهنا لابد من الفصل بين اللغة كلغة وبين لغة هذا الكاتب أو ذاك، لأن الأسطورة الذاتية للكاتب هي بصمته التي يمتاز بها من غيره، ولأن مفهوم النص الشعري لديّ مفهوم لا ينحاز إلى الفهم المباشر والشرح والتفسير، فإني أنحاز إلى تلك الكثافة التي تفعّل حالة التلقي أكثر من غيرها، وبالتالي تجعل النص منفتحا على تأويلات المعنى دون أن ينغلق على معنى محدد مباشر، وبذلك يضمن استمراريته ويضمن خلوده وبقاءه، في سيرورة الزمن كمعنى متجدد.

  • هل نستطيع القول إن اللغة الهامسة غابت عن قصائدك؟
  • ** هنا لابد من البحث في مفهوم اللغة الهامسة، فإن كان القصد تلك اللغة الرومانسية التي تحرك الوجدان قبل العقل، فأرى أن اللغة التي أشتغل عليها تحقق الإيقاعية بين الوجدان والعقل، فهمسها كامن فيها، وليس ظاهرا، كما أن تفكيرها كامن في عمقها، وهكذا كما يرى "باشلار" كان الشعر المتحرر من الانقيادات المألوفة يعد نموذجا حياتيا ونموذجا فكريا موزون الإيقاعات، وبذلك كان الوسيلة الأمثل لتحليل الحياة الروحية تحليلا إيقاعيا، ولجعل الروح يستعيد السيادة على جدليات الزمن.

    وبذلك يأخذ الشعر مداه الأكثر شساعة في تحقيق الموازنة بين الوجدان والعقل، بين الهمس والصدمة التي يخلقها السؤال الجدلي داخله.

  • كتبتِ بعض الدراسات في النقد، ما الذي دفعك للخوض في هذه التجربة؟
  • ** توجهي للنقد في بعض الحالات ليس توجها مدرسيا، بقدر ما هو توجه إبداعي دافعه الرغبة في الغوص داخل النصوص، والبحث عن مكامن الفتنة فيها، وبالتالي فالنقد لدي هو حالة من حالات الكشف بطريقة أخرى أكثر اتصالا بالنص، وهذا الأمر فيه غنى للتجربة الإبداعية، وفيه اختبار للمعرفة التي تشكلت من خلال هذه التجربة، وبهذا الاختبار يصبح الكائن الشعري في داخلي أكثر كثافة، وأكثر معرفة، وأكثر إدراكا لموقعه في تجربتي الذاتية، فليس الدافع إذا رغبة من باب التعدد في الكتابة، وإنما هو دافع لاختبار التجربة.

  • هل ثمة آفاق ومساحات بوحية لم تجديها في الشعر دفعتك لتقديمها في الرواية؟
  • ** للشعر عالمه ومساحاته الفيضية، كما للرواية عالمها المنفصل المتصل بهذا العالم، أي إن الرواية ليست إلا شكلا سرديا للقصيدة، ولأن النفس الإنسانية في قلق دائم فنحن نحتال على قلقها في أكثر من رؤية إبداعية، وفي أكثر من خطاب، بالتالي تتعدد الخطابات في التعبير عن التجربة الإبداعية للمبدع، فالنفس البشرية كما يقول "كولن ولسن" تكتنز معرفة بالأشياء جميعا، وما الأمر إلا كيفية إخراج تلك المعرفة.

    فأنا بتعدد الخطابات أرى وجهي مكتملا، وكما أن القصيدة رواية ذات انسجام مختلف في الذات فالرواية قصيدة ذات شساعة معرفية تحفر في جانب آخر من ذاتي، وبالمجمل: الإبداع بكل خطاباته بحث عن الإجابة لسؤال الوجود لدى المبدع.

  • هل فكرتِ يوماً أن روايتك قد تساعد على تغيير فكرة عامة، أو مصير ما؟
  • ** هذا التفكير هو الدافع الكامن في فطرية الإبداع، وهو الذي يجعلنا أكثر اتصالا بذاتنا، ولأن الإبداع هو مكمن التغيير في الذات فلا شك سيخلق لدى المبدع فكرة التغيير في الآخر، وبالتالي كما يقول "باشلار": «كل مجهود حياتي هو مجهود جدلي، وإن كل فاعلية روحانية هي انتقال من مستوى إلى مستوى أرفع». وهذا التفاعل الجدلي بين المنتج الإبداعي وبين المبدع وبينهما وبين المتلقي هو الذي ربما يؤكد فكرة التغيير إلا أنه لا يستطيع أن يحدد مستواها.

    ولأن الرواية أكثر تخطيبا للرؤى المعرفية من غيرها من الأجناس الأدبية، فهي أكثر تجاوبا مع فكرة التغيير، ويكفي الإبداع أن يتيح لنا مساحة من الحلم حتى يكون قد أدى أعظم مهمة من مهامه.

  • التجربة التي نعيشها تجعلنا أكثر ليونة ووعياً للحياة فإلى أي مدى تساهم الكتابة في إيصال زبدة هذه التجربة أو نتيجتها الحقيقية؟
  • ** الكتابة تجربة في اللغة، تعيد تشكيل تجربتنا في الحياة، تكثف معارفنا، تعمق وعينا، تحرك الكامن فينا من أسرار، وبالتالي هي خلاصة الكائن وهو يحاول فهم ذاته، وخلاصة الوجود وهو يفكر بوجوده، ويرى "باشلار": «إن لعبة الأفكار لها لطائفها الخاصة، وإن هذه اللطائف كانت في عمق وجودنا، تحرك همسات مخنوقة». لتتحول بذلك الكتابة إلى صياغة الكائن ذاته بالكلمات، وبهذه الصياغة إنما تجدد خلقه، وتفتح له الكثير من مساحات الأحلام ليؤوّل من خلالها تجربته، وليحقق بفضائها فلسفة الراحة التي تنهض من قلقه لترتب فوضاه في لحظة الوجود.

    *ما الذي يهمك بالدرجة الأولى: تأثير النص، أم الاستجابة التي يحققها؟

    ** إن تأثير النص هو الذي يحفّز الاستجابة، بالتالي لا انفصام بين التأثير والاستجابة وإنما هما عمليتان تحتدمان في تحقيق الوصل الإبداعي أي التلقي الفاعل، وهذا التلقي هو الذي يعمل عليه المبدع من خلال تفعيل أدواته الإبداعية التي تخطب تجربته وخبرته المعرفية وبالتالي تتجه إلى تخصيب تلك المعرفة بمعرفة المتلقي ليحقق المتعة الجمالية والمعرفية معا.

  • في الختام.. أين سنرى "بهيجة مصري إدلبي" في المستقبل القريب؟
  • ** في القصيدة التي لم أكتبها بعد.

    أنا في ذاتي حروف مثقلاتُ

    وإلى ما لا أرى تجري الحياةُ

    لي صفاتٌ أشكلت لما تجلّت

    ورؤى لم تنجل عنها الصفاتُ

    يقول الشاعر والناقد الفلسطيني "عادل سالم" عن تجربة الشاعرة "إدلبي" الشعرية: «هي شاعرة من حلب حيث الثقافة، والأدب، ورثت من المتنبي إبداعه، ومن سيف الدولة، حماسته وحكمته، اختارها الشعر ليكتب في أصابعها، وليخرج من حنجرتها نغمات جميلة، إلى عشاق الكلمة، عشاق الشعر، والأدب، والفن، تذكرك بالمواويل الحلبية، وقدودها، عندما تبحر معها في محيط الشعر، ترمي البوصلة في قاع المحيط ليتوه القارب، وتبقى في صحبة أشعارها إلى أن تهب عليك رياح عاتية فتغرق فيه».

    بقي أن نذكر أن الدكتورة "بهيجة مصري إدلبي" حاصلة على إجازة في اللغة العربية، ودبلوم في التربية وعلم نفس، ودكتوراه في فلسفة الإدارة التربوية. عضو اتحاد الكتاب العرب- عضو اتحاد كتاب بلا حدود "ألمانيا"- عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب- عضو نادي التمثيل العربي بحلب- عضو اتحاد شعراء بلا حدود- عضو جمعية العاديات بحلب- عضو الهيئة العليا في منتديات من المحيط للخليج- عضو نادي شباب العروبة للآداب والفنون- عضو دائم في دار نعمان للآداب.