تنقلك كلماته في تناغمها وزخمها اللغوي، إلى عالم الكلمة الحقيقي، فيجعلك شعره تبحر في تيارات من المعاني السامية التي تزينها ورود "الفرات" وجماله الأخاذ. ليعلن الشعر عند الشاعر "عبد الجليل عليان" أنه قطعة من تلك المشاعر التي قد تتلاقى مع مشاعرنا وهي تتلاقى كثيراً، لتدخلك في قفص كلماته الذي لا يتركك تفارها حتى نهاية القصيدة..

وللدخول اكثر في عالم الشاعر "عبد الجليل عليان" الأدبي، كان لقاؤنا معه في eAleppo لينتج هذا الحوار:

  • لنبدأ من الشعر نفسه، ما الشعر كما يراه "عبد الجليل عليان"؟
  • ** الشعر من الشعور وهو العلم من طرف دقيق كالشعرة، وهو من المشاعر فهو للعواطف أقرب منه للأفكار، والشعر دون فكر لا شيء. والشعر هو غلطتنا أو كذبتنا الجميلة، وهو الوهم الذي لا بد منه لنستطيع مواصلة العيش، وأنت لا تستطيع أن تعيش على طعم واحد، والشعر هو الطعم الجميل الآخر للكلام. والشعر هو الكلام النبيل الراقي والعاطفة الإنسانية المغناة.. والذي يحيل إلى السموّ والنقاء.. وهو الحكمة / الضالة ، والسحر الحلال ..! وصلة الشعر بالعاطفة والشعور تجعله يفضل ارتداء موسيقاه المناسبة للحالة، لأن للعواطف ألحانها، التي توشح تعبيراتها اللفظية.

  • هل من دوافع معينة دفعتك لكتابة الشعر؟
  • ** ربما لأنني عاطفي.. ولأنني ارتضيت منطق الشعر وسيلة للتعبير والتوصيل، ولأنه الكلمة الجميلة النافذة، ولأنني اخترت سلاح الكلمة..! وكما هو معلوم أن الحب والشعر معينا الحياة، فقد تفتقت أرواحنا على حب الشعر منذ البداية.

    * قصة قصيدة؟

    ** أطرف ما أذكر قصة قصيدتي (الطيف الزائر) وهي قصة هاتفة معجبة بديواني (قصيدة ثورة الحب الصامت) دأبت على الاتصال تسأل، وكنت أجيبها إجابات مقتضبة، وينتهي الأمر. وكان أن لاحظت بأنها تتصل بوقت محدد أسبوعيا، وبعد بضعة أسابيع، انقطعت عن الاتصال وتركت فراغا في الفضاء، تحوّل مع الوقت، إلى صورة (الطيف الزائر )..!

    فكان مطلع القصيدة:

    "هُزِّي إليكِ عَواطـفي ومَشاعري/ إنْ كُنتِ لا تَـدْرين حُبَّ الشَّـاعرِ

    يا رَبَّـةَ الإلهـام، قدْ عَصَفَ الهوى/ بالمُستَجيرِ مِنَ الهجـيرِ بهـاجِرِ

    قيسٌ أنا، ليلايَ، أبحثُ عَنكِ في/ كـلِّ الدِّيـارِ بكلِّ طَرْفٍ حائـرِ

    وأكـادُ ألمَحُ طَيْفَـكِ السَّاري، إذا/ ما لاحَ بَدْرُ الدّاجياتِ لنَـاظِري

    وأمُدُّ كـفّي لِلّقـاءِ فلا أرى/ إلا يـدي الأُخرى تَلُـمُّ خَواطِري".

  • ومن مطلع القصيدة اسألك، ماذا عن "حب الشاعر"، وهل يختلف عن سواه؟
  • ** المرأة بطبيعتها كائن رقيق وناعم، تحب الكلمة الشاعرة، وتحب ترديدها مرارا مع علمها بها بعاطفة الرجل، والشاعر هو النبع الذي تحلم المرأة بنهلاته ساعات الحلم وساعات الحكمة، فما يكون حب الشاعر بعد إذن!؟! على شرط أن يكون صادقا لا يتخذ الشعر ذريعة لما هو أدنى.

  • هل لقصائد "عبد الجليل عليان"، طل موحد؟
  • ** يكون الشاعر، ويكون الآخر، وتكون الفكرة، وتكون القصيدة ذاتها.. ويكون مزيجا من عنصرين من العناصر المذكورة.

  • وماذا عن العلاقة التي تربطك بالقصيدة؟
  • ** القصيدة هي الآخر الحميمي، وهي الفضاء الرحب وقت الضيق والتبرّم من الواقع المعيش، وهي المخرج الدقيق من أزمات الفكر والواقع.

    هي الأنثى التي نشكلها وفق تصوراتنا ورغباتنا، وهي موسيقانا الداخلية الشائقة، وهي منفانا الجميل من كوابيس الواقع المتمثل بالآخر الطاغي، وهي الأداة التي نتسلح بها، هي سلطة الشاعر..!

    إن امتلكت القصيدة فهي أداة، وإن لم تمتلكها فهي كائن آخر، قد يأخذ أي موقف منك، وبالمقابل عليك أن تأخذ موقفك منه..

    والعلاقة التي تربطنا بالقصيدة هي ذات العلاقة التي تربطنا بالمفردات التي تحكمنا من مكان وزمان وآخرين.. وهي في النهاية الملجأ والوطن ومسؤولية الشاعر..

  • هل يرى الشاعر أنه مسؤول، وما طبيعة هذه المسؤولية؟
  • ** تنطلق من كون الشعر موهبة إلهية. والموهبة لا تعني الهواية ولا العلم، الكثير يكتب القصيدة بالهواية والعلم أو التعلم، وهو ليس محل كلامنا. إنما نتحدث عن الموهبة ومسؤوليتنا تجاه هذه الموهبة التي أودعها الله تعالى فينا.. فمسؤولية الشاعر تكون هنا مضاعفة، فهي مسؤولية الإنسان تجاه ما يخصه، مسؤولياته عن الآخرين كلهم ومواقفه منهم، والقضايا التي يتأثر بها بصفته كائنا، والقضايا التي تكون محل خطاب له، وهذا إنما يؤدي إلى مسؤوليته عن الوطن بصورة أشمل متمثلا بالإنسان والأرض والهوية الحضارية.. فإذن مسؤولية الشاعر عن موهبته، بحجم الوطن وهمومه، وحضارة الأمة.. فإن استطاع فليقل ما يضارع، وإن لم يستطع فليصمت..!

    واسمح لي هنا، أن أردد بيت ابن الوردي رحمه الله، من لاميته المشهورة:

    قيـمة الإنسان، ما يحسـنه.. أكثر الإنسـان منـه، أم أقلّْ.

  • لابد لكل شاعر من مفردات شعرية تميزه من غيره، فمن يختار مفردات قصائدك؟
  • ** الموضوع هو الذي يختار المفردات الموائمة في النص، محكوما بالحالة ساعتئذ، وتذوق الشاعر المحكوم بحصيلته المعرفية واللغوية.

    وبناء عليه.. فنحن ننتقد أولئك الذين يحشدون ألفاظهم (قاموسهم الشعري) ما أمكنهم في كل قصيدة، في أي موضوع يريدون، وتجد هذا هاجسا مرضيا عند البعض أحيانا كثيرة.

    وشبيه هذه الظاهرة.. ظاهرة حشد الصور في النصوص، وقصر الأدوات والقضايا الشعرية على التصوير.. فيبدو ذلك مملا وتبدو فيه رائحة الصنعة المزعجة.. على أن ذلك لا يعني أننا نحط من قيمة التصوير وجلال قدره.. لكن الصورة التي تجيء عفوية، والمفردة التي تكون أكثر مناسبة هي التي تأسرنا.

  • أتصور أن المطلع في القصيدة كالأساس في المعمار.. حدثنا عن مكانة المطلع؟
  • ** بالفعل هو كذلك.. وعلى الشاعر اختيار البحر/ الموسيقا المناسبة والتي تلبي مشاعره غير منقوصة منذ البيت الأساس/المطلع، واندياح عاطفته حينئذ مرهون بمناسبة البحر لتدفقها والتوفيق في بناء النص، أو انحباسها المحيل إلى ظهور الصنعة جلية في القصيدة، ومثل ذلك ينسحب على القافية الملائمة للموضوع ومفردات الشاعر التي يأنس إليها، ومخزونه اللغوي.

  • كيف تأثير البيئة الفراتية في شعرك؟
  • ** تجده يتجلى في المفردات ورسوم المشاهد في ثنايا قصيدتي (ثورة الحب الصامت) و(نجوى على شط الفرات) و(بنت الفرات) وغيرها...

  • وماذا عن "منبج" في شعرك؟
  • ** "منبج" تعني لي الكثير الكثير، في الشعر وغير الشعر، ولو أحسنت التصور، فتخيل أن الجميع غادروها إلا واحدا، فيكون أنا.. فعليه إن اعتباري (ابن بلد) أو محب لبلده، ليس كافيا أحيانا كثيرة أحس نفسي ـ في المواجهة مع الذات ـ أنني أنا "منبج".

    وصورة "منبج تراها" جلية في قصائد كثيرة عندي.. منها نهايات قصيدة (ثورة الحب الصامت).

  • للشاعر "عبد الجليل عليان" الكثير من الأنشطة في النشر الإلكتروني، ما رأيك بهذه الظاهرة؟
  • ** أحسن ما هو متاح، وقد أعفتنا من مشاكلنا مع شلل الصحف القليلة الورقية، والتي تُفَصّل فيها مساحة المنشور الإبداعي على عدد الشلة، وحجوم نصوصهم، كذلك أفسدت علينا التطلع إلى الانتشار والتواصل من خلال الإعلام المرئي، والذي يحفل كثيرا بترويج ثقافة أبناء مهنة الإعلام من مسلسلات ولقاءات وإعداد برامج يقومون هم بإعدادها، وكأن البلد خلت إلا منهم، عندك الآن أكثر كتاب الدراما السورية، هم ممثلون في الأصل وليسوا كتاب رواية، وعندما تجلس إلى الشاشة أمام عمل تلفزيوني، لا تحس القيمة الأدبية خلف المشاهد، وإنما الذي تحسه أكثر أنك تجلس في الشارع، اللهم ما خلا بعض الأعمال التاريخية المعروفة ل "حاتم علي" على سبيل المثال، و"حاتم علي" الرجل هو قاص في الأصل، ذو موهبة معروفة، قبل أن ينتقل إلى حقول أخرى..

  • متى تتوقف عن كتابة الشعر ؟
  • ** عندما يتوقف الآخر عن القراءة.

  • هل هناك مشروع أدبي تعمل عليه؟
  • ** نعم عملت منذ أمد طويل، على إضافة هامة في النظرية النقدية العربية، ولكنني توقفت لأسباب كثيرة، ذاتية في مجملها، وآمل أن يتاح الوقت الملائم، للاستمرار وإخراجها إلى النور..

    ومن قصيدته "ثورة الحب الصامت" نختار:

    "إلى "منبج" خذني أيها الآسي/ إلى أهلي وأحبابي وجُلاسي

    كؤوس الغربةِ انكسرتْ على عطشي/ وما كانتْ لترويني سوى كاسي

    صحيحٌ أنني في جنة الدُّنيا/ تُجاذبني بإطرابٍ وايناسِ

    وتخطرُ لي بزاهٍ من تبرُّجها/ وتغريني بكبرٍ.. ثم إملاسِ

    وتعرضُ لي غرائبَ منْ مفاتنها/ أباحتها لمنْ يبغي بإسلاسِ

    ولكني أغضُّ بنظرتي الأولى/ لمترفِ حسنها الزّاهي بألماسِ

    أغالبُ حُبها بالسحر يغلبني/ وأغلبهُ بروحي أو بإحساسي

    غريب الروح لا أرتاحُ في دنيا/ ولا ألتذُّ في كاسٍ ولا طاسِ

    ولو كانت هي الفردوس أو عدنٌ/ إذا خُلقتْ لناسٍ هم سوى ناسي".

    بقي أن نذكر ان الشاعر "عبد الجليل عليان" من مواليد "منبـج" 1966م. أستاذ فن الخط في دار الأرقم الشرعية بمنبج. تخرج في المعهد المتوسط للطباعة بدمشق 1991م. درس اللغة العربية وآدابها في جامعة الفتح بدمشق. نال الجائزة الثانية مناصفة في مسابقة البحتري الشعرية الأولى في منبج 2005م. له العديد من المشاركات على المنابر الثقافية السورية. نشر بعضاً من قصائده في الصحف المحلية والعربية. له عدد من المخطوطات الشعرية، صدر منها: "ثورة الحب الصامت" 1996م. "تنويعات منبجية في حضرة الفرات" (مجموعة مشتركة).

    له عدة تراجم منها: ترجمته في معجم "البابطين" للشعراء العرب المعاصرين. الكويت 1995م. معجم أدباء حلب في القرن العشرين، "حلب" 2004. معجم الخطاطين العرب المعاصرين "الكويت".