حظي مصطلح الحداثة وما بعد الحداثة باهتمام كبير في الأوساط الثقافية المعاصرة، باعتبارهما مدلولان فلسفيان لظاهرتين إنسانيتين كونيتين تبدوان متناقضتين أحيانا ومتضادتين أحيانا أخرى، تشكل ولادة المجتمعات الرأسمالية الغربية الحديثة، والمجتمعات الغربية المعاصرة مجتمعات الحقبة الإمبريالية التي من أبرز سماتها:

العولمة الاقتصادية، والخضوع لسيطرة نظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وإشعال الحروب، وإزهاق أرواح ملايين البشر.

ثمة أسئلة تتمحور حول مفهوم الحداثة، وصلته بغيره من المفاهيم والمصطلحات الفلسفية والأدبية، كالحديث والمحدث، والتحديث والتجديد وغيرها, فما هي الحداثة؟ وما ماهيتها؟ وهل صحيح أن تاريخ الحداثة يعود إلى نشأة المجتمعات الغربية الحديثة، وإلى فلسفة الأنوار، فلسفة القرن التاسع عشر؟ ثم إلى أي مدى تحتفظ الحداثة بفاعليتها في عالم اليوم؟ أم أنها انتهت وحلت محلها فلسفة ما بعد الحداثة؟

هذه الأسئلة وغيرها نطرحها للبحث مع الأستاذة الدكتورة إيمان الصالح رئيسة قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة حلب, وهي أستاذة أكاديمية قدمت للفكر العربي العشرات من الدراسات الفلسفية المعمقة, وشاركت بمؤتمرات محلية وعربية ودولية عدة, منها مؤتمر عن منظمة المرأة العربية في مصر, ومؤتمر دولي بجامعة فيلادلفيا في المملكة الأردنية عن العرب والغرب، والدكتورة إيمان الصالح درست في فرنسا بجامعة ليون لمدة سبع سنوات, وقد أشرف عليها في مرحلة الماجستير والدكتوراه الأستاذ الدكتور طيب تيزيني.

وقد التقت eAleppo الدكتورة إيمان الصالح فكان الحوار الآتي:

دكتورة إيمان ما هي الحداثة؟

الحداثة مصطلح يستخدم في معرض تلخيص حالة الأشياء، ذات التحديث الدائم، وحالة العقل والنظرة البشرية الذي يولدها ذلك النوع من الوعي المتكرر في العالم الحديث المصاب بوسواس الإبقاء على الحالة الجيدة, ومع ذلك فالكلمة لا تزال تحتفظ بقوة حضورها بسبب ارتباطها بشعور معاصر متميز: الشعور التاريخي بأننا نعيش في أزمة جديدة بالكامل، وبأن التاريخ المعاصر مصدر أهميتنا، وليس خافيا بأنَّ الحداثة هي وعي جديد اكتشفه الفن الحديث.

ولدى سؤالنا عن الحداثة بمعناها المبسط ؟

قالت: الحداثة في الاستعمال العادي هي شيء يسير قدما بمواكبة السنين مثل موجة تقدم السفينة، فحديث السنة الفائتة ليس هو عين حديث هذه السنة, واليوم الحركة الحداثية هي التعبير المحدث الأسمى, وهي حركة أكثر من حادثة جمالية، رغم أنها تنطوي على استجابة جمالية عالية, وهي مصطلح- وإن كان الأوروبيون أوجدوه وعملوا به خلال مرحلة نهوضهم في مجتمعاتهم الحديثة- إلا أن فكرة الحداثة وإمكانية ظهورها كانت حاضرة على مر العصور والأزمنة، الأمر الذي جعل بعض النقاد يقرون بأنه من العسير الوقوع في مكان أو تاريخ واضحين للحركة الحداثية, فالحركة الحداثية في الواقع كانت حركة دولية.

من جهة أخرى نزعة الحداثة ظلت تفسر على أنها نزعة إصلاح لما هو قائم باستخدام أدوات فكرية جديدة، وفكرية فقط، وبذلك يمكن تجديد البناء الاجتماعي هيكلياً وعلائقياً حركياَ, من هنا تشير الحداثة إلى أنها عملية ذهنية، يتقدم بواسطتها الوعي الفردي والاجتماعي، من خلال امتلاك أفكار إنسانية جديدة متطورة، تنتج أسلوب عيش وحياة جديدين، يتيح للفرد تحقيق ذاته في مجتمع حداثي يصبح الفرد فيه مركز العالم وعلته الفاعلة.

ومن ناحية أخرى يرى بعض المفكرين أن الحداثة في جانبها الثقافي يجب أن تصبح جدلية على مستوى الفكر، ثورية على مستوى الممارسة، باعتبارها تفاعلا حياً وتغييراً في العلاقات والبنى، وهو الوضع الذي تحقق في أوروبا، حيث تم تجاوز التخلف بإحداث حركة متسارعة في الوضع الراكد نجم عنها إحداث تغييرات جذرية في العلاقات الإنتاجية والتوزيعية توافقت مع امتداد السوق واتساعها فطال التغيير بذلك البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

دكتورة إيمان هل ثمة علاقة جدلية بين الحداثة والتحديث ؟

بكل تأكيد فالعلاقة جدلية بينهما, والصلة بينهما جوهرية ومتبادلة، وان كان فعل الحداثة المتمثل في حداثة الأفكار وإنتاج الوعي المتقدم، مقدمة ضرورية وشرطاً لازما للقيام بفعل التحديث بأرقى صوره, على أننا لا ننكر ما للتحديث من أثر في تطور منظومة الفكر والوعي لدى الإنسان، فامتلاك الآلة الحديثة والأجهزة المتطورة يطور من وعي الإنسان في حدود تعرفه عليها واستخدامه الصحيح لها.

دكتورة إيمان وما هو ما بعد الحداثة؟

إذا كانت الحداثة مصطلح يشير إلى الانتصار الظافر للعقل الإنساني، والإعلاء من شأن الذات الإنسانية وقدراتها العقلية، فقد برز مصطلح ما بعد الحداثة في القرن العشرين الذي شهد ولادة العديد من الأفكار والاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية، الفوضوية والعبثية الداعية إلى نقض العقل ونفي الذات، وإطلاق الغرائز، وتمجيد القوة، فيقدم فرويد تصوراً عن الكائن الإنساني، وعن جهازه النفسي ينتهي إلى إلغائه، حيث يجعله خاضعا لاشتراطات (الهو) ومحكوماً بمحددات لا شعورية، وفي ذلك نيل واضح من المفاهيم الديكارتية التي نهض عليها مشروع الحداثة، فالشعور والعقل والإرادة، ليست سوى ألفاظا زائفة تحمل تصورات ودلالات غير مطابقة لحقيقة الذات البشرية، وفقاً للتحليل النفسي لدى (سيغموند فرويد)، ويخلص التحليل النفسي إلى نفي الحرية والإرادة عن الكائن الإنساني ويحيله إلى كائن مسير بفعل اللاشعور ودوافع الهوا الغريزية.

وفي إطار الفلسفة الماركسية نجد أن فاعلية الذات التي تعد ركيزة أساسية في الحداثة، أصبحت مشروطة ومحددة بجملة عوامل وشروط خارجة عها وخاضعة لها بجعلها العامل الاقتصادي عاملا موجها لسلوك الإنسان وتفكيره.

دكتورة أين ما بعد الحداثة اليوم وهلا أعطيتنا نماذج منها؟

نماذج ما بعد الحداثة في عالم اليوم، كما يرى عبد الوهاب المسيري- ونحن نؤيد رأيه- الظاهرة الصهيونية التي تؤمن بالصيرورة المستمرة الكاملة، دون منطلقات أو نظريات، لكن من جهة معاكسة، رغم اختلافها مع التفكيكية ببحثها عن نقطة الأمل النهائية في فلسطين وسعيها لتكون المركز الوحيد المدلول المتجاوز في الشرق الأوسط.

كذلك يعتبر المسري أطروحات ما بعد الحداثة الفلسفة الأمريكية: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفوكو ياما, وصراع الحضارات لصموئيل هنتغتون, وهي دعوات إمبريالية وأيديولوجية الاستعمار الجديد.

من ناحية أخرى يواكب مصطلح ما بعد الحداثة في أجلى ظهور له، الفترة التاريخية المعاصرة، فترة ظهور العولمة، وتحول الإنسان فيها إلى مجرد أداة وسلعة، يحكم النظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في حياته ومصيره، بعد أن كان مركز العالم وسيده، وفرض النموذج الأمريكي على دول العالم ومجتمعاته، وإشعال الحروب العبثية، والتهديد المستمر باستخدام القوة ضد الدول والجماعات والأفراد، الذين لا يخضعون لمشيته، والتدخل السافر في شؤون الدول الداخلية وتبني شعارات تدميرية كشعارات الفوضى الخلاقة، والحرب المقدسة, وتبني فكرة الدولة اليهودية، من أبرز صور ما بعد الحداثة في عالم اليوم.