وجد العديد من هذه الدمى في كثير من المواقع الأثرية في الشرق العربي، واختلف الباحثون في غايتها، إلا أنه من الواضح أنها لعبت دوراً مزدوجاً في الحياة الدينية والاجتماعية.

يعود اكتشاف أول اللقى لهذه الدمى إلى موقع "تل المريبط" (على ضفة الفرات اليمنى، عند انعطافته الكبيرة نحو الشرق)، حيث عثر على دميتين من الطين المشوي عام 1939 أثناء التنقيب فيه، لم يلبث أن وجد الكثير منها في عدة مناطق في الشرق العربي، ويعود تاريخ صناعة هذه الدمى إلى ما قبل 8 إلى 7 آلاف عام قبل الميلاد، وتتعدد استخداماتها تبعاً للمكان الذي وجدت فيه.

وجدت نماذج أحدث من نماذج "تل المريبط" في عدة مواقع تعود إلى الفترة بين 4 آلاف و3 آلاف قبل الميلاد، أي ما يسمى العصر النحاسي المتأخر، وتتميز عن سابقاتها بأنها صبغت بألوان زاهية، ما يعطيها جمالية أكثر

في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 آب 2014، يقول الأستاذ "عدنان سليمان"؛ مدرس تاريخ: «إن صناعة هذه الدمى وجدت في مملكة "ماري" في ذلك الوقت، وكما هو حال صناعة الدمى اليوم، فقد كان هناك (ورشات) متخصصة في صناعتها، ولغايات كثيرة، بعضها ديني مرتبط بنمط العبادات السائد، وبعضها الآخر لغايات اجتماعية هي إيجاد ألعاب للأطفال، وتصنيعها كان يتم وفق قوالب وقياسات معينة كما يتضح من القياسات التي أجريت عليها».

دمى في متحف حلب الوطني

ويلاحظ أن أغلبية الدمى جسّدت المرأة، ويستشف ذلك من خلال تكوينها الأنثوي المتجلي في تفاصيل الجسم، ويفسر ذلك الأستاذ "سليمان"، بأن المرأة هي رمز الخصوبة في مختلف ثقافات الشرق العربي.

وقد وجد نوعان من هذه الدمى، دمى ذات أشكال بشرية وأخرى حيوانية، ويرجح الباحثون ومنهم الفنان التشكيلي "طاهر البني" في كتابه "ذاكرة الفن التشكيلي في سورية" (الجزء الأول)، أن الغاية من وجود هذه الدمى اقتصرت على جانبين: الأول بكونها تعبيراً دينياً لآلهة الخصب، خاصة إذا ما انتبهنا إلى أن أغلبها كان تماثيل لنساء تم تضخيم مراكز الخصب لديهن بشكل مبالغ فيه، ويضيف الفنان "البني" بقوله: «تم العثور على مجموعة من الدمى الحيوانية والبشرية التي أنجزها الإنسان السوري القديم في الفترة بين الألف الثامنة والسادسة قبل الميلاد؛ مصنوعة من الطين والحجر في عدد من المواقع التي أقام بها، واستطاع أن يشكل هذه الدمى من الطين المنتشر على ضفاف الأنهار، والبحيرات والوديان إضافة إلى الحجارة المنتشرة حول هذه الأماكن».

دمية طينية من تل المريبط

لم تكن الدمى إعادة إنتاج مطابقة للطبيعة المحيطة أو الكيان البشري، يقول الباحث "البني": «لم تكن هذه الدمى مطابقة لأصولها بل كانت تقتصر على الملامح العامة في اختزال واضح، وتتسم بابتعادها عن محاكاة الطبيعة، وتميل نحو الصياغة الهندسية من خلال علامات رمزية واصطلاحات تدل على الموضوع ولا تعيد صياغته». (ص31).

في موقع "المريبط" عثر على دمية بارتفاع 10سم تقريباً تعد أقدم الدمى التي عثر عليها، وقد صنعت من الحجر الكلسي الأبيض المنتشر في المنطقة، وتبدو الدمية كما يقول الدكتور "علي أبو عساف" في كتابه "فنون الممالك القديمة في سورية": «مشوهةً، ورأسها كتلة مرتبطة بالجسد دون عنق، لم يبق من الطرفين السفليين سوى الفخذين الممتلئين، أما الطرفان العلويان فملتصقان بالجسد، ويمتدان من الكتفين المائلين إلى ما فوق الصرة، وكأنهما كُمّان، تعود هذه الدمية إلى المرحلة الثالثة التي مر بها الموقع، وهي بين 8 آلاف -7 آلاف قبل الميلاد" (ص6).

من أنواع الدمى في ماري وتل غزال

أما الجانب الثاني من الدمى، فتمثل بكون هذه الدمى لعباً للأطفال، خاصة إذا لم تكن مشوية أو مفخّرة، كما وجدت مثلاً في مقابر الأطفال في مملكة ماري، فقد دفنت الدمى مع الأطفال، وبعضها صنع من أقمشة أو من خشب، وهي مخصصة للعب الأطفال تبعاً لأشكالها وألوانها وطريقة صنعها، يذكر الباحث العراقي "هديب غزالة": «الثابت تاريخياً أن العرائس كانت أسبق من الإنسان في التمثيل والتشخيص، وأنها كانت الأولى في "طابور" الفنون التعبيرية الأخرى، وقد أدت مهمات دينية متنوعة منذ فجر التاريخ، وتطورت بفعل الحضارات وتنوعت بما يلائم بيئة كل حضارة، وبمرور الزمن أصبح لها قصة تقوم بتمثيلها وتؤدي كل معناها، بدلاً من أن توحي لبعضها على أن يضع المتلقي في نفسه عالمها وحوادثها». (من مقال له في جريدة المؤتمر العراقية، آذار 2013).

صناعة الدمى من أجل لعب الأطفال وجدت في كثير من الحضارات حول العالم، وفي "مصر" استخدمت منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وفي "أوغاريت" أيضاً وجدت نماذج منها، يقول الفنان "البني" في كتابه السابق: «وجدت نماذج أحدث من نماذج "تل المريبط" في عدة مواقع تعود إلى الفترة بين 4 آلاف و3 آلاف قبل الميلاد، أي ما يسمى العصر النحاسي المتأخر، وتتميز عن سابقاتها بأنها صبغت بألوان زاهية، ما يعطيها جمالية أكثر». (ص 36).

استعملت في صناعة بعض هذه الدمى تقنية تجريدية اعتمدت كما تدل الدراسات في أغلب المواقع التي تعود لعصر البرونز الوسيط، وهو نمط لعب دوراً أساسياً في تطور الفن في "سورية" بوجه عام، وسورية الداخلية بوجه خاص، وهذا الفن يعد مرحلة أساسية في تطور الفن العالمي، وهو الذي ابتكر دمية عشتار العارية التجريدية التي غزت "سورية" بالمجمل.

ومن أهم الخصائص العامة للدمى المكتشفة استخدام عجائن الفخار وهي ليست أنماطاً مميزة بنقائها، وتنوعت الدمى من حيث النوع وطريقة التصنيع وآلية التشكيل، والدمى المكتشفة في التل تعد استكمالاً للمدارس الفنية في سورية الداخلية (كما ورد في عدد مجلة الحوليات الأثرية السورية الأخير، 7-2014).

يمكن الاطلاع على نماذج من الدمى في مختلف المتاحف السورية، وأبرزها موجود في متحف "حلب" الوطني من مكتشفات تل "براك".