تعتبر مدينة حلب مهداً للرواية العربية ففيها ولدت أول رواية عربية ثم تبعتها صدور عدة روايات اعتبرها النقاد والباحثون بأنها روايات الريادة العربية وقد تميزت باتجاهات وتقنيات متنوعة.

موقع "eAlepoo" بحث مقومات الروايات الأدبية الأولى في حلب مع عدد من الأدباء والمهتمين، وبدأ مع الأديب والروائي "نذير جعفر" الذي تحدث بالقول: «لقد مثّلت الثقافة النخبوية خلال القرن 19 في أغلبها الاتجاه التنويري المتأثر بالغرب الداعي إلى محاكاته وإلى الانقلاب على نمط الحياة العثماني السائد، ونجد ذلك في المرويات والمدوّنات السّردية التي وصلتنا ومنها "غابة الحق" -1865م لفرنسيس المرّاش و"لطائف السّمر في سكّان الزّهرة والقمر" -1907م لميخائيل الصقّال وحافظ بعضها على مرجعيته التراثية الأصولية في دعوته إلى الإصلاح والتغيير كما في مدوّنة "سانحة أدب من ساحة حلب" لمحمّد خورشيد أفندي الكردي».

لقد مثّلت الثقافة النخبوية خلال القرن 19 في أغلبها الاتجاه التنويري المتأثر بالغرب الداعي إلى محاكاته وإلى الانقلاب على نمط الحياة العثماني السائد، ونجد ذلك في المرويات والمدوّنات السّردية التي وصلتنا ومنها "غابة الحق" -1865م لفرنسيس المرّاش و"لطائف السّمر في سكّان الزّهرة والقمر" -1907م لميخائيل الصقّال وحافظ بعضها على مرجعيته التراثية الأصولية في دعوته إلى الإصلاح والتغيير كما في مدوّنة "سانحة أدب من ساحة حلب" لمحمّد خورشيد أفندي الكردي

وحول اتجاهات روايات الريادة وتقنياتها يقول الروائي "نذير جعفر": «بالنسبة لغابة الحق فهي تمثّل المدوّنة السرديّة الأبرز في نتاج المفكّر التنويري "فرنسيس المرّاش" 1836 -1873م بوصفها تأصيلاً لمفاهيمه الليبرالية عن دولة التمدّن والحريّة والمساواة، وقد قوبلت منذ صدورها باستجابات متباينة فتناولها عدد كبير من الباحثين والنقاد الرواد من أبرزهم الأب "لويس شيخو" والفيكونت "دي طرّازي" و"أحمد حسن الزيّات" و"مارون عبّود"، وقد أشار هؤلاء إلى أنّ "المرّاش" استلهم أفكار عصر التنوير وجمع في نصه بين الفلسفة والأدب بصورة مبتكرة، إلا أن ما يؤخذ عليه - كما يرى "مارون عبوّد"- أنه ُينطق شخصياته بأفكاره هو وأنه غيّب التشخيص عن روايته.

فرانسيس المراش صاحب أول رواية عربية /غابة الحق/

ويلتقي القدماء والمحدثون في تثمين النزعة العلمانية والأفكار التنويرية التي بشّر بها نصّه والتي تجد مرجعيتها الفلسفية في فكر الثورة الفرنسية وأعلامها من "فولتير" إلى "جان جاك روسو" و"ديدرو".

ويبدو أنّ الاحتفاء بالقيمة الفكرية لـ"غابة الحق" أقصى التناول النقدي لأسلوبها ولغتها وبنيتها الفنية ومكونات خطابها السردي فنكاد لا نعثر إلا على بعض الدراسات القليلة التي التفتت إلى هذه الجوانب.

الروائي نذير جعفر

لا شك أنّ الأفكار التنويرية في "غابة الحق" ما زالت تكتسب راهنيتها وسخونتها في مجتمع مفوّت لم تنجح أنظمته ونخبه السياسية الإصلاحية والراديكالية حتى الآن في دمقرطته أو في وضعه على سلّم التمدّن الذي بشّر به "المراش" في مدوّنته قبل قرن ونصف، لكن هذه الأفكار ما كان لها أن تكتسب هذا البريق في "غابة الحق" لو لم تصغ فنياً بما يحقق جاذبيتها ويوسّع دائرة استقبالها من شرائح مختلفة من القراء.

ولا يبتعد "ميخائيل الصقال الحلبي" 1852-1937م في روايته "لطائف السمر في سكان الزّهرة والقمر" أو "الغاية في البداية والنهاية" التي قدم لها "موسى بيطار" في طبعة جديدة عما جاء في رواية "المرّاش" من طرح لقضايا التنوير موازناً بين واقع الحال في " حلب" أواخر القرن التاسع عشر، وما ينبغي أن تكون عليه لتلحق بركب التمدّن.

وسوى ذلك من القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية التي بشّر بها عصر النهضة، وإذا كان "المرّاش" ينحو منحى التلميح والترميز والتنويع في طرائق السرد, فإنّ "الصقال" يميل إلى المباشرة ويكاد يكتفي بتوظيف أسلوب المناظرة بين الأب والابن من مبتدى السرد إلى منتهاه».

ويقول متابعاً: «المدوّنة الروائية الثالثة هي "سانحة أدب من ساحة حلب" لمؤلفها "محمد خورشيد أفندي الكردي" وهو واحد من المصلحين المتنوّرين الذين عاشوا في "حلب" في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومخطوطه يدل على أنه مثقف جمع بين الأصالة والمعاصرة بما فيها معارف الغرب وعلومه، أما محقق المخطوط فهو الشاعر والباحث المعروف "محمد كمال" ويغلب الظن أنها كُتبت في العقد التاسع من القرن التاسع عشر.

وقد رأى مؤلف المخطوطة ألا تكون سانحته فكراً جامداً أو عظة مملة فنحا في أسلوبه منحى القصة الحوارية ذات الشخصيات المتميزة بآرائها وتكوينها وتوجهاتها الفكرية والنفسية وهي ثلاث شخصيات:

"الراوي" الذي يمثل شخصية المؤلف نفسه، و"عارف" الذي يمثل الفكر الحر والرأي السديد و"أبو عمرو" الذي يمثل صورة ناطقة عن العامة الدهماء الذين ركنوا إلى الأوهام واستجابوا لدواعي الخرافة والتقليد.

ومن خلال الحوار بين شخصيتيّ "عارف" و"أبي عمرو" يستعرض المؤلف "الراوي" واقع المجتمع الحلبي في ظل الدولة العثمانية التي بدأت تلفظ أنفاسها منذ منتصف القرن التاسع عشر وتضعف عن حماية العالم الإسلامي وكان لضعفها السياسي انعكاساته الوخيمة على الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فعمّ الجهل وانتشر الفساد في الوقت الذي كانت فيه البلاد الأوروبية تأخذ بأسباب العلم والمدنية وتهدّد العالم لا بقوتها العسكرية والتنظيمية فحسب وإنما بما وصلت إليه من اختراعات وحققته من منجزات.

ومن أبرز الظواهر التي ينتقدها المؤلف على لسان "عارف" ما كان قد وقر في أذهان العامة من قدرة بعض المشعوذين على استخدام المردة والشياطين وتسخيِرهم لما يبتغون من مصالح وأغراض وكذلك ادعاء بعض المخادعين مزاولة الكيمياء وتحويل المعادن الرخيصة إلى نفيسة وممارسة بعضهم التنجيم والعلوم الروحانية.

ثم ينتقل مؤلف "السانحة" إلى بيان سر النهضة الأوروبية فيرى أنه يكمن في الإقبال على العلم وفي رواج الصحافة، ولا تكشف هذه المدوّنة الروائية عن نزوع تنويري يحاكي الغرب بقدر ما تكشف عن نزوع إصلاحي محافظ يكتفي بالأخذ عن الغرب ما يوافق الدين الإسلامي ويهمل ما يتعارض معه.

إن هذه الروايات الثلاث تتباين على المستوى الفني, فتبدو رواية "المراش" في مقدمتها كونها شكّلت نقلة نوعية في بنية السرد العربي فهي لم تمتثل للأساليب السائدة في عصرها، ولم تجنح إلى عناصر المغامرة والتشويق المجّاني؛ أو تبالغ في استخدام المحسّنات البديعية؛ أو تنحو منحى المقامة في اللعب على أوتار الجناس والطباق والسجع -لإبراز المهارة اللغوية-.

بل أخذت من كل ذلك بقسط لا يخلّ بسياقها موظفة إياه بما يخدم المعاني والمرامي دون إخلال أو إملال متكئة في صياغة خطابها على تعدّد الرواة الذي يكسر خطية السرد ويسرّع من وتيرته والمشاهد الحوارية التمثيلية وتوظيف المقبوسات النثرية والشعرية بما يعزّز المقاصد واستخدام تقنية " الحلم " محاكية بذلك رؤيا "يوحنا" مع اختلاف المنطلقات والغايات فكانت نسيج وحدها ونقطة تحوّل بين ماض يأفل وحاضر لا يقوى على الخروج من عباءته.

ومن هنا يكتسب "المرّاش" شرف الريادة الأولى لما تمتعت به روايته من مزايا لعل أولها: النسق الحكائي الذي يجد مرجعيته الفنيّة في التراث العربي ومروياته السردية لا في الرواية الغربية وثانيها: ملامسته لأسباب تقدّم الغرب وتأخر الشرق وثالثها: تبشيره بقيم عصر النهضة التي ما زالت همّ النخب الثقافية العربية حتى اليوم.

وإذا تجاوزنا الحديث عن بواكير رواية الريادة في عصر النهضة التي ما زالت ميداناً للبحث وتجاذب الآراء فإنّ أول كاتب سوري حلبي يلفت الانتباه هو "شكيب الجابري" 1912 -1996 في روايته الأولى "نهم" – 1937.

هل أرادت "نهم" تقديم صورة الآخر/ الغرب فحسب ؟ هذا ما يفصح عنه برنامجها السردي وفضاؤها الزماني/المكاني وحبكتها التي تنتظم من خلالها الأحداث والشخصيات بأبعادها الدرامية والنفسية التي تتمحور حول الحب والخيانة والوفاء والعاطفة والواجب من وجهة نظر كاتبها العربي الذي لو حذفنا اسمه عن الغلاف ووضعنا أي اسم أجنبي بدلاً منه لما أثار أي لبس بأنه مؤلفها!».

ويختم حديثه": «إنّ محاكاتها للرواية الغربية على المستوى الفنيّ أمر واضح من حيث استخدام تقنيات الرسائل والاستباق والاسترجاع وتعدّد أشكال الراوي، لكن هذه المحاكاة لا تتوقف عند الجانب الفني بل تتعداه إلى محاكاة الفضاء المكاني/ الاجتماعي الثقافي الغربي ذاته في نمط عيشه واهتماماته وفنونه وآدابه وهذا ما يجعل منها رواية غريبة عن مجتمعها العربي وهمومه ومشكلاته.

وإذا أخذناها بهذا المعيار فإنها لا تحظى بسبق الريادة أما إذا نظرنا إليها من زاوية تأثيرها في مسار الرواية السورية فإنها تكتسب ريادتها الزمنية والفنيّة بوصفها الرواية الثانية بعد رواية "فرنسيس المرّاش"- "غابة الحق"- 1865 بما اشتملت عليه من تقنيات وأساليب فتحت الباب واسعاً أمام تحديث بنية السرد وتخليص اللغة من تقعّرها ومحسّناتها البديعية واللفظية والالتفات إلى صورة الآخر/ الغرب وتقديمها في أعمال لاحقة عبر علاقتها بالشرق».