بلغ من صيت منتجات مدينة "حلب"، أنها حملت معها روحها حيث حلت في أي بقعة من بقاع العالم، تاركة جزءاً يسيراً من هذه الروح لتنمو في أرض جديدة، من "حلب" إلى "باريس" هذه الحكاية.

و"حلب"، المدينة التي ينوف عمرها عن آلاف السنين، أضافت لسحرها سحراً جذب إليها عشاقاً يبحثون عن أسرارها التي تودعها منتجاتها، من قماش وزعتر وصابون وغناء ورقص، هذا ما عاشته الكاتبة الفرنسية "فرانسوا كلواريك" في علاقتها مع "سورية" ككل، ومع "حلب" بشكل خاص.

وهم القادرون وحدهم على تقدير جودة العجينة أثناء طبخها بتذوقها، تماماً كما يفعل صانعو النبيذ حين يتحققون من تخمره في أطوار مختلفة من صنعه

يتحدث الدكتور "سمير نصير"، الأستاذ في كلية الزراعة في جامعة "تشرين"، وخريج الجامعات الفرنسية، لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 12 آب 2014، عن هذه العلاقة التي ربطت الكاتبة بـ"سورية"، فيقول: «أغلب كتب "كلواريك" هي عن "سورية" وتاريخها برؤية المحب والمقدّر لهذا البلد، وخلف ملامح الكثير من كتاباتها تحضر "سورية" الحضارة، كما في حديثها عن مملكة "ماري" التي اشتغل الفرنسيون كثيراً على مكتشفاتها، مثلها مثل "أندريه بارو" مكتشف "ماري"».

الكاتبة في باريس

"كلواريك" هي طبيبة ومحللة نفسية، ورسامة حاصلة على إجازة جامعية في الفنون الجميلة في باريس، وهي أستاذةُ "علم النفس المرضي" في جامعة "باريس" السابعة، وضعت عدة كتب ذات مواضيع مرتبطة بالشرق وخاصة "سورية"، منها: "بيمارستان، أماكن جنون وحكمة"، و"سورية: رحلة بحد ذاتها"، و"الخان"، و"زمن القناصل والتائهة"، وآخرها "روح صابون حلب"».

في كتاباتها ورسوماتها تتجاوز عوالم مختلفة دينية وثقافية وحضارية، زارت الكاتبة "سوريةَ" مراراً وتكراراً، وفي المرات الأولى كما تقول في مقدمة كتابها الأخير "روح صابون حلب"، الصادر عن دار نشر "نوير بلانك"، تفاجأت بأنها تطأ عالماً مختلفاً كلياً عن الصورة المرسومة في ذهنها، تقول الكاتبة: «يجب أن نظهر عشقنا الحقيقي إذا ما أردنا أن نكشف عن روح شيء ما، وهذا ضروري كي نتناوله من جميع الزوايا، قصة صابون "حلب" لا يحتويها كتاب، فهي ولدت من عمق العصور، ويمتد عمقها إلى مختلف مناطق الشرق العربي ومنطقة البحر المتوسط منذ العصور القديمة».

هكذا يتذوقون العينات

تبدأ قصة الصابون من لحظة جني الزيتون، في أواخر تشرين الأول حتى نهاية كانون الثاني، تضيف الباحثة: «النساء، هن في الأغلب من يقطفن الزيتون، وهن من يجمعن ثمار الزيتون التي سيكون زيتها المادة الأساسية للصابون، أما البدو فيجمعون نبات "الأشنان البري" الذي سيشكل المادة المساعدة لتحويل الزيت إلى صابون، كلها مواد طبيعية، في بعض المناطق يستخدم "عكر الزيتون" لإنتاج الصابون، ولكن هنا يستخدم "الزيت"، هذه النقطة مهمة جداً، فعندما يستخدم زيت نقي لإنتاج المادة تكون النتيجة أكثر من مذهلة على كل الصعد، النفسية والحضارية والبيئية حتى».

أما صانعو الصابون، وتعددهم الكاتبة بأسمائهم، وأين يقطن كل منهم، فهم الصناع الذين تنتقل معارفهم من جيل إلى جيل: «وهم القادرون وحدهم على تقدير جودة العجينة أثناء طبخها بتذوقها، تماماً كما يفعل صانعو النبيذ حين يتحققون من تخمره في أطوار مختلفة من صنعه».

صابون حلب في ميلانو

تأتي بعد ذلك مرحلة تقطيع الصابون إلى مكعبات، وهذه المرحلة تتميز بالدقة الكبيرة، إضافة إلى الجمالية الأخاذة لطرق التقطيع والتشكيل، تقول الباحثة: «صناع الصابون ليسوا أشخاصاً عاديين، إنهم أناس يعشقون السحر المختبئ وراء هذه التشكيلات، صابون غار "حلب" ليس مجرد غرض، إنه حتى أكثر من عنصر نظافة، إنه الدليل الموجه لكل حضارة».

يصدر الصابون الحلبي إلى مختلف دول العالم، بنكهة الغار المميزة، تقول الباحثة الفرنسية: «تأتي أفضل الأنواع من سورية، كذلك هناك من يصنعه في "لبنان ونابلس"، إلا أن للصابون الحلبي ثقله الخاص هنا، ورغم كثرة الأنواع التي تأتي من مختلف دول العالم إلا أن للمنتج الحلبي طلابه بين محبي المنتجات الطبيعية».

يوجد في "حلب" الكثيرون من صانعي الصابون، ومن مختلف الأنواع، ومختلف القياسات، وحتى مختلف درجات الجودة، تؤكد الكاتبة الفرنسية أن رحلتها بحثاً عن روح الصابون الحلبي انقلبت إلى مغامرة إنسانية تعرفت فيها على منتجي الصابون في مواقع عملهم، وهي توثق لكل منهم في كتابها المذكور بدقة واحترام.

قامت الكاتبة برحلتها إلى "سورية" برفقة مصور فرنسي شهير، هو المصور "مارك لافود Marc Lavaud" وقد سبق له أن نال العديد من جوائز التصوير الفوتوغرافي حول العالم، وزود الكتاب بمجموعة من الصور المميزة لرحلته إلى "سورية" وحلب أولها، وفي كل تفاصيلها، من الحقل فالأسواق إلى داخل حمام السوق نفسه.

وإلى "ميلانو"، حيث يحل الصابون "الحلبي" ضيفاً غالياً على أسواقها، يقول المغترب السوري "جودت سليمان" من "دير الزور": «في أحد أسواق "ميلانو" لفت نظري علبة أنيقة (الصورة)، كتب عليها "صابون حلب"، تجاهلت الأمر، وسألت البائع: ما هذه؟ فأخذ يشرح لي النوعية الجيدة لهذا الصابون وفوائده، وأضاف: إننا نستورده من مدينة "حلب" السورية المدينة العريقة والعظيمة، وأبدى أسفه الكبير على ما جرى ويجري بها من دمار وخراب، لم أقل له إنني سوري، وسألته عن الثمن، فقال: "إنها تساوي ستة يورو!" حسبتها "عالسوري" فكان ثمن اللوح 1500 ليرة سورية تقريباً، أخذت العلبة فوجدتها مختلفة تماماً عما يباع في "سورية"، فهي تفوح برائحة المسك والغار، لكني لم أجد "ليفة ديرية"، مع أنني أكره الليف، خاصة عندما تكون جديدة "تكشم" الجلد، تذكرت على الفور شخصاً اسمه "صدوق" كان على عربته الخشبية الصغيرة ينادي "صابون غار حلب" في حارات "دير الزور"».

أخيراً، يمكنكم الاطلاع على عينة من صور الرحلة إلى "صابون حلب" في قسم "الصور" في مدونة وطن؛ بعنوان: "روح صابون حلب" بعدسة المصور "مارك لافود".