ربعُ قرنٍ مضى على رحيل الفنانة السورية "زكية حمدان"، وما يزال المعجبون بصوتها يبحثون لها عن أغنية ضاعت في التسجيلات هنا وهناك، فقد كانت عرّابة الأغنية الرومانسية في الشرق العربي.

من اللافت أن هذه المغنية احتفظت باسمها الحقيقي فنياً، في حين أن كثيرات ممن احترفن سبل الغناء في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، استخدمن اسماً فنياً، ولعل هذا يعود إلى أنّ نشأتها كانت في بيت يعنى بالفن، فوالدها "حسن حمدان" كان ممثلاً عمل مع الرواد المؤسسين ردحاً من الزمن، كذلك والدتها، إلا أنهما لم ينالا نصيبهما من الشهرة التي نالها أقرانهما.

يصعب على أي مطربة من مطربات هذه الأيام أن تقارن مع هذه الفنانة، فمهارتها في العزف على العود، وتدربها على أداء القدود والموشحات لسنوات طويلة، ومبادئ الإلقاء الشّعري للقصائد الفصيحة والمحاورات الغنائيّة، وتدريب صوتها على القفلات والمد والترجيع، وثقافتها الفنية العالية، كل هذه العوامل تقف في صفها، فكانت قادرة على الذوبان في كلمات الأغنية، وتعرف تماماً كيف تقود صوتها ليكون أداؤه في مستوى عالٍ، خاصة في الأداء الصوتي الحر، حيث لا تستخدم سوى أدوات التخت الشرقي فلا محسنات للصوت ولا للأداء

يذكر الناقد "صميم الشريف" في كتابه "أعلام الموسيقا في سورية" أن "زكية حمدان تعلمت الغناء صغيرةً، على يد ملحن "حلبَ" الأشهر، "أنطون زابيطا"، وإليه يرجع الفضل في انطلاقتها، ووصولها إلى مرتبة رفيعة في سلك الغناء العربي، فالرجل تعهدها منذ نشأتها، وأغرقها بالتدريب عزفاً وغناءً، حتى جعل منها المطربة التي من الصعب أن تنسى".

مع الملحن سليم سروة عام 1952

ولدت "زكية حمدان" في "حلب" عام 1920، وحققت شهرتها بعمر العشرين تقريباً، فقد غنت في حفل خيري أقيم لجرحى الحرب العالمية الثانية في 30 كانون الأول عام 1939، بحضور قائد جيوس المنطقة الشمالية في "سورية"، الفرنسي "مونييه"، على مسرح سينما "روكسي"، بإدارة لحنية للملحن "أحمد الأُبري"، وقد شارك معها في الحفل عدد من أساطين الغناء العربي وقتها، منهم المصرية "ليلى حلمي"، و"بكري الكردي"، وغيرهم.

هذه الحفلة فتحت لها أبواب المسارح والملاهي والمرابع، ولأنه لم يكن لديها رصيدُ أغانٍ كبير، كما يقول الناقد "الشريف"، فقد عمدت إلى غناء الأغاني التراثية، التي تمرست بها من أدوار وموشحات "محمد عثمان" و"داوود حسني"، ثم غنت أغانٍ معاصرة لـ "محمد عبد الوهاب" كأغنية "الكرنك" المعروفة، و"زكريا أحمد" في أغنيته "أنا في انتظارك"، و"السنباطي" في مونولوجه "يا ظالمني"، وكلها كانت تغنيها "أم كلثوم"، إلا أن "زكية حمدان" تركت بصمتها الخاصة على هذه الأغاني بأدائها وبصوتها الرخيم، وأسلوبها المتفرد، وفق شهادات من تلك الفترة، منها شهادة من الملحن السوري المعروف "محمد محسن" في إحدى المجلات الصادرة تلك الفترة.

من تراث الملحن أنطون زابيطا - من أرشيف المدونة

في الأربعينيات من القرن العشرين، ظهر في "مصر" أولاً، نمط الغناء الرومانسي كبديل من الغناء التراثي، وانتشر في الشرق العربي، ولم يكن هناك من الأصوات السورية، ما يليق بهذا النوع من الغناء قدر صوت وأداء "زكية حمدان"، وقد وعت نفسها هذه الميزة، فطلبت من كبار الشعراء الحلبيين وقتها كتابة أغان تناسب هذا النوع، ولحنها لها، ملحنها المخلص لها حتى وفاته "خالد أبي النصر اليافي"، فجاءت بعدة أغانٍ، خلد لها التاريخ منها أغنيتين، ما زالتا إلى اليوم محط إعجابٍ واستماع، وقد سكبت فيهما من روحها، فسيطرت بهما حتى على الأغاني الأخرى التي غنتها، خاصة بعد أن أعادت الفنانة القديرة "ميادة بسيليس" غناءهما، وهما مونولوجا "سليمى" من كلمات الشاعر الكبير "نوفل إلياس"، و"خـُلقت جميلة" للشاعر والأديب "مدحت عكاش"، وقد غنتهما بالتتالي عام 1951 و1952 في "دمشق".

عندما غنّت هاتين القصيدتين، ضربت شهرتها الآفاق، فقرّرت الإقلاع عن العمل في الملاهي والتّفرّغ للتّعامل مع المسرح القومي بـ"دمشق" ومع الإذاعة السّوريّة الوليدة آنذاك، وفي هذا الوقت، وطوال الخمسينيات والستّينيات سجلت رصيداً كبيراً من الأغاني التّراثيّة الشّاميّة والحلبية، والموشّحات والقصائد والأغاني الوطنيّة والأدوار، التي لا تزال مرجعاً لمحبي التّراث الغنائي العربي في خزينة الإذاعة السّوريّة.

من أغلفة أعمالها

قبل نهاية الستينيات بقليل، انتقلت إلى مدينة "بيروت"، وكانت تشهد وقتها ازدهاراً فنياً كبيراً، واختارتها مقراً دائماً لها، ومنها كانت تنطلق إلى مختلف العواصم العربية لإحياء الحفلات والمناسبات، وبقيت على هذه الحال حتى رحيلها عن الدنيا، فقضت أواخر سنواتها في دولة "الكويت" حيث وقعت عقداً خاصاً مع إذاعتها، وتوفيت عام 1987 ودفنت هناك، ولم تتزوج أبداً.

يذكر الكاتب "عدنان بن ذريل" في مؤلفه "الموسيقا في سورية"، أنها غنت لعدد من الملحنين السوريين واللبنانيين، وقد أبدعت بصوتها فيهما أيما إبداع، من السوريين الذين لحنوا لها، الملحن "ميشيل خياط"، فغنت له "ربَّ ليلٍ" للشاعر الأندلسي "ابن الخطيب"، و"يوم جددتَ ليالينا" لأستاذها "أنطون زابيطا"، ومن اللبنانيين غنت: "ويحكَ يا قلبي" لـ"محمد علي فتوح"، وأغنية "يا قلبي غني" لـ"مارون أنطون"، وخصَّها الأخوان "رحباني" بأغنية "زورق الحب".

في قراءة فنية لتجربتها الفنية، تحدث لمدونة وطن "eSyria" الملحن والفنان "مروان دريباتي" فقال بتاريخ 4 آذار 2014: «يصعب على أي مطربة من مطربات هذه الأيام أن تقارن مع هذه الفنانة، فمهارتها في العزف على العود، وتدربها على أداء القدود والموشحات لسنوات طويلة، ومبادئ الإلقاء الشّعري للقصائد الفصيحة والمحاورات الغنائيّة، وتدريب صوتها على القفلات والمد والترجيع، وثقافتها الفنية العالية، كل هذه العوامل تقف في صفها، فكانت قادرة على الذوبان في كلمات الأغنية، وتعرف تماماً كيف تقود صوتها ليكون أداؤه في مستوى عالٍ، خاصة في الأداء الصوتي الحر، حيث لا تستخدم سوى أدوات التخت الشرقي فلا محسنات للصوت ولا للأداء».

المصادر:

[1]- صميم الشّريف، الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ، دمشق، منشورات وزارة الثّقافة، 1991، ص 170.

[2]ـ عامر رشيد مبيّض، مئة أوائل من حلب، أعلام، معالم أثريّة، صور وثائقيّة، حلب، دار القلم العربي، 2004، ص 1731.

[3]- عدنان بن ذريل، الموسيقا في سورية البحث الموسيقي والفنون الموسيقية منذ مئة عام إلى اليوم، دمشق، دار طلاس، 2- 1988، ص 140.