اجتمعت في شخصيته مواهب واستعدادات جمة حينما اخترع آلة موسيقية أسماها "غنكران"* عمل مدرساً للموسيقا بمدارس حلب ورئيساً للفرقة الموسيقية بالجيش العربي الأردني، أسهم في إنشاء إذاعة حلب، إنه ابن الشهباء الفنان "مجدي العقيلي".

موقع eAleppo التقى الأستاذ "محمد مسعود خياطة" مدير الفرقة التراثية الفنية بـ"حلب" ليحدثنا عن شخصية الفنان "مجدي العقيلي" بالقول: «انحدر من أسرة حلبية سنة 1917 ونشأ في مدينة "حلب" وأتقن العديد من الموشحات والقدود والأدوار والمقامات والإيقاعات، درّس في المدارس والمعاهد الموسيقية وعُرف في دور الإذاعة والتلفزيون ملحناً متميزاً، كان عالماً يُرجعُ إليه في كثير من الأمور الفنية المختلف عليها، أوكلت إليه وزارة التربية إدارة المعهد الموسيقي في "دمشق" ومن ثم تولى مهام إدارة إذاعة "حلب" والإشراف عليها، قدم العديد من الموشحات ومن ضمنها ـ أيها الساقي إليك المشتكى ـ جادك الغيث إذا الغيث همي ـ سهرنا على حفظ الغرام ـ والعديد من الموشحات الأخرى».

قدم "العقيلي" ما يقرب من عشرين موشحاً ضمن وصلات معينة في مقامات وإيقاعات متنوعة نهج فيها الكثير من نهج الأندلسيين في التلحين لشعراء أندلسيين ومنهم ابن "زهر الأندلسي"، ولسان "الدين بن الخطيب" وغيرهم

"للعقيلي" العديد من المؤلفات ومن أشهرها "كتاب السماع عند العرب" وحول أهمية الكتاب ودور الموسيقا العربية أضاف "خياطة" قائلاً: «يقع في خمسة أجزاء فصدر الجزء الأول عام 1969 ثم تتالت أجزاؤه الأخرى في الأعوام 1970،1972،1976، أسماه "العقيلي" فن السماع لكونه الاسم الذي كان يطلقه "العرب" على الغناء والموسيقا مستشهداً بقول الخليفة العباسي "الواثق بالله" في معنى السماع، وبحث فيه كل ما يتصل بالتراث الموسيقي والغنائي العربي فكان الجزء الأول مخصصاً لبيان أدوار الموسيقا العربية الأولى منذ عصور ما قبل الميلاد، ومنها الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي من خلال التقسيم المنهجي الذي اعتمده "العقيلي" فتحدث عن السلم الموسيقي والنغمات وجهود الفلاسفة الموسيقيين في تفسير النظريات الموسيقية القديمة وتطويرها مثل "الكندي" و"الفارابي".

كتاب السماع عند العرب

وأفرد في الجزء الثاني الحديث عن الدور الثالث للمدرسة الموسيقية المنهجية في العصر الأندلسي وأعلام الموسيقا وفنون الموشحات والنوبات في الأندلس، وضم الجزء الثالث الدور الرابع للمدرسة الموسيقية الحديثة وتحدث فيها عن الموسيقا والغناء وأعلامهما في البلاد العربية ما عدا المغرب العربي، وقد خصص في الجزء الرابع الحديث عن الآلات الموسيقية العربية والشرقية وتاريخها وصناعتها منذ أقدم العصور وضمّن نظرية رياضية جديدة في كيفية استخراج الكومات من البعد الصوتي الواحد وتحدث أيضاً عن النغمات العربية القديمة والحديثة والإيقاعات وعلاقة الأوزان الشرقية بمثيلاتها الغربية والتركية والتدوين الموسيقي قبل ثلاثة آلاف عام في "سورية" والتأثر والتأثير بين الموسيقا العربية والموسيقا في "الصين" و"الهند"، وانفرد في الجزء الخامس للحديث عن الفنون الشعبية وألوان الموسيقا والغناء الصوفي عند العرب وأعلام هذه الفنون وموضوعاتها وأنماطها في البلاد العربية».

وعن الموروث الموسيقي الذي أسهم في تقديمه أجاب "خياطة": «قدم "العقيلي" ما يقرب من عشرين موشحاً ضمن وصلات معينة في مقامات وإيقاعات متنوعة نهج فيها الكثير من نهج الأندلسيين في التلحين لشعراء أندلسيين ومنهم ابن "زهر الأندلسي"، ولسان "الدين بن الخطيب" وغيرهم».

محمد مسعود خياطة

لكن مؤرخ "حلب" "عامر رشيد مبيض" بيّن أن في تاريخ الرجال قلما أن يتعرف المرء على ذوي المواهب الكبيرة بحيث تجتمع في شخصية عالم أو أديب أو فنان سمتها التنوع والثراء بل التناقض أحياناً قائلاً: «فقد بدأ "العقيلي" حياته محباً للموسيقا في شتى صوره فاخترع آلة موسيقية شبيهة بالقيثارة ذات صوت له رنين صوت القانون ورقة صوت الماندولين يضرب عليها بالريشة ويعزف عليها بالقوس أسماها "عنكران" نال فيها الجائزة الأولى من معرض دمشق الدولي عام 1935».

إن الأستاذ "مجدي العقيلي" دأب في تعلم الفن ودرس في المدرسة الخسروية والثانوية في المدرسة الأميرية وحول هذا يضيف "مبيض": «استطاع أن يرتاد مناهل الفن بعيداً عن أعين الأهل والأسرة وبشكل سري، وظل دأبه إلى أن سنحت الفرصة في السفر إلى إيطاليا فانتسب إلى معهد "سانتا شيشليا" الملكي في "روما" إلى جانب دراسته كان يعمل مديراً للفرقة الموسيقية الشرقية في محطة "روما باري" الإيطالية، وفي عام 1939 عاد إلى وطنه يحمل شهادة تخصصه في الدراسة الموسيقية الغربية وعمل مدرساً لفرقة موسيقا الجيش العربي الأردني لمدة سنة ونصف عاد إلى "حلب" وعاود نشاطه الفني تدريساً وبحثاً وحينما أنشئت إذاعة دمشق عام 1947 دُعي للعمل فيها ومن ثم عين مدرساً في المعهد الموسيقي الشرقي الذي أسسه "فخري البارودي" وكان فرعاً لإذاعة دمشق ثم مراقباً فنياً في إذاعة حلب عام 1961».

عامر رشيد مبيض

وعن الأبحاث والرسائل التي قدمها أجاب "مبيض": «وضع منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي بعض الرسائل والأبحاث والكتب التي تتحدث عن الموسيقا العربية وغناها وفضلها فألف لغة الموسيقا في ثلاثة أجزاء والموسيقا الشرقية وأعلامها ولغة الأوتار فضلاً عن بعض الأبحاث والمقالات في الموسيقا العربية وتاريخها، ودأب منذ البداية على التأليف والكتابة في تاريخ الموسيقا العربية عبر العصور».

هناك العديد من الفنانين الذين نهلوا من الفن الذي قدمه "العقيلي" واستطاعوا من خلاله البروز على الساحة الفنية ومنهم الفنان "صباح فخري" وآخرون أضاف عنهم "مبيض" قائلاً: «والمطرب "محمد خيري" وفرقة الموسيقا العربية وغيرهم وقام "العقيلي" بتلحين بضعة أبيات شعرية للشاعر "أبي العلاء المعري" من الاحتفال الذي جرى بمناسبة ألفية الشاعر أبي العلاء المعري، وله العديد من المعزوفات والقطع ومنها تسابيح وتذكير، مناجاة، أشواق، خواطر، صباح الخير، ذكرى، رقصة العرائس، فرحة قلب، ليالي أثنيا ومن نوع الإسكتش والأوبريت أوبريت الطيور، والورد، والبحارة ومن الأناشيد الوطنية العروبة، الشباب، البنات، أغاريد الطفولة وغيرها، رحل "مجدي العقيلي" في أيلول عام 1983 مخلفاً تراثاً ضخماً من الأبحاث والكتب الموسيقية القيمة».

  • "الغنكران" آلة تشبه العود ولكنْ يمكن العزف بها بقوس الكمان عند اللزوم، وقد أطال "العقيلي" زندها قليلاً وزاد أوتارها إلى سبعة فاتسعت لخمسة مقامات. وعلى وجه الآلة من الأسفل قطعة رق مستطيلة الشكل يرتكز عليها فرس متحرك لحمل الأوتار. عندما عرضت هذه الآلة على الشيخ علي الدرويش أكبرها وهنّأ مخترعها، وعندما شارك بها في معرض بدمشق عام 1936، اجتمعت لجنة الفحص الموسيقية وصدر قرار اللجنة في إحدى الصحف بتاريخ 27 تمّوز 1936 تحت عنوان "موسيقي حلبي نابغ يخترع "الغنكران" فيتفوّق في المعرض".