رحلة عطاء وجهد قضاها رجل من رجالات التنوير محققاً فيها عشرات الكتب والترجمات والأعمال؛ تاركاً إرثاً غنياً يرجى أن يتحول إلى متحف في قلب مدينته التي أحبّ.

"قسطاكي الحمصي" من الأسماء الكثيرة التداول في عالم الأدب والترجمة والصحافة، فهو واحد ممن حملوا مشاعل التنوير بدأب وسعي حثيث لخدمة بني جلدته.

"الحمصي" هو أحد أعيان مدينة "حلب" ومن كبار مثقفيها، وهو أديب عربي حلبي مرموق من أسرة علم وأدب، كان منزله مقصد الأدباء والشعراء والمفكرين لم يتوانَ يوماً عن خدمة قاصديه في سبيل العلم

في حديث مع مدونة وطن "eSyria" يذكر الناقد والباحث "نذير جعفر" بتاريخ 26 آب 2015: «عندما زرنا منزله منتصف عام 2008 برفقة اللجنة المكلفة لأرشفة مكتبته، هالنا العثور على كنز من الكتب والمخطوطات والرسائل، منها ديوانه الشعري المخطوط الذي كتبه بخط فارسي جميل، البارز أنه تضمن محاولة نظمية تجديدية تجلت في قصيدتين؛ الأولى في "إبراهيم اليازجي"، والثانية في حفل تأبينه، وقد أطلق عليهما اسم "المرصع"، ولم ينظم فيهما بأسلوب الشعر العربي القديم».

منزل قسطاكي الحمصي في حلب

ولد "أنطاكي" في حي "العزيزية" بمدينة "حلب" في شباط عام 1858 لأسرة تعود أصولها إلى مدينة "حمص" قدمت إلى "حلب" في النصف الأول من القرن السادس عشر، توفي والده "يوسف" في الخامسة من عمره فتولت تربيته أمه "سوسان الدلاّل" شقيقة الأديب "جبرائيل الدلاّل"، وكانت سيدة مثقفة، ومع بدايات وعيه صار يتردد إلى دار جده "عبد الله الدلاّل" التي كانت منتدى لأدباء "حلب"، فيسمع ما ينشد فيها من الشعر، وما يدور من المناقشات والمحاورات الأدبية، فانطبعت نفسه على حب الأدب منذ نعومة أظفاره، ونظم الشعر وهو في الثالثة عشرة، قبل أن يلم بعلم العروض وقواعد اللغة العربية؛ كما يذكر ذلك الصحفي الحلبي "ياسر مرزوق".

تعلم "الحمصي" في كتاتيب مدارس ذاك الزمان، ثم في مدرسة "الرهبان الفرنسيسكان" اللغة العربية والنحو والعروض، في السادسة عشرة انتقل إلى عالم التجارة فبرع فيها ثم تركها لشغفه بالآداب بعد أن حقق ثروة جيدة، ثم سافر إلى "مصر" و"إيطاليا" و"فرنسا" حيث استقر في العام 1875 في "باريس" مع عدد من أهله بعد انتشار الطاعون في مدينته الأم، وتعلم الفلسفة وعلم الأخلاق على يد الفيلسوف الفرنسي "جاكمان" ووصل حتى أتقن الفرنسية إتقاناً كاملاً، يقول "الحمصي" في وصف "باريس":

الناقد نذير جعفر ـ أرشيف مدونة وطن

ليس فيها قولٌ لليتَ ولا في... صنعها خدعة ولا تدليس

وترى كيفما توجهت ظرفاً... وجــمالاً تهيمُ فيه النفوسُ

من أعماله - مجلة المجمع بدمشق

تنقل "الحمصي" بين "باريس" و"بيروت" و"الآستانة" و"مصر"، واستفاد من هذه الرحلات واللقاءات في كتاباته الصحفية والأدبية كما أثرت تأثيراً كبيراً في حياته الاجتماعية، وقد برزت علاقته الطيبة مع الشاعر المصري الكبير "إبراهيم اليازجي" الذي فتح له أبواب الصحافة بكتابته الدائمة في مجلتي "الضياء" و"البيان" وهما مما أصدره "اليازجي"، فكانت هذه الانطلاقة الأولى له في عالم الصحافة؛ فبقي يكتب فيهما ردحاً من الزمن مجموعة من أهم المقالات التنويرية وبعضها ترجمه عن الفرنسية لأشهر الكتاب والفلاسفة الفرنسيين والعالميين وقتها.

بعد الانقلاب العثماني عام 1909 عمل خطيباً في "الجمعية العربية" وانتحب عضواً في مجلس إدارة مدينة "حلب" أكثر من مرة، وعضواً في "مجلس المعارف" ومعاوناً لرئيس المجلس البلدي، وقد شارك في مهرجان "الحرية" بـ"حلب" وألقى كلمة أورد فيها كلمة "الحرية" للمرة الأولى؛ كما يذكر ذلك صاحب مجلة "الضاد" الراحل "عبد الله يوركي حلاق".

في عام 1922 عين عضواً في المجمع اللغوي العربي في "دمشق"، وتصادق مع المؤرخ "محمد كرد علي" ودارت بينهما مراسلات وكتب في مجلة المجمع كما في مجلات أخرى مثل: "الهلال"، و"الآثار"، و"المقتبس"، الدمشقية، و"النفائس العصرية"، وغيرها.

بقي يعمل في "دمشق" و"حلب" ويتنقل بينهما، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 اعتكف في منزله يكتب ويقرأ، أنجر فيه عدداً من الكتب المهمة في النحو واللغة والترجمة، منها: "السحر الحلال في شعر الدلال"، و"مختارات من شعر قسطاكي الحمصي"، و"تاريخ النقد في القرون الوسطى"، و"تاريخ النقد العالمي"، إضافة إلى عدد كبير من المقالات الصحفية والأدبية في مختلف المجلات العربية والمحلية.

تميز "الحمصي" بعلاقة طيبة مع مجتمعه وبيئته ورفاقه، يقول "محمد خالد النائف" مدير "دار الكتب الوطنية" في "حلب"، في حديث سابق لمدونة وطن غداة افتتاح منزله كمتحف: «"الحمصي" هو أحد أعيان مدينة "حلب" ومن كبار مثقفيها، وهو أديب عربي حلبي مرموق من أسرة علم وأدب، كان منزله مقصد الأدباء والشعراء والمفكرين لم يتوانَ يوماً عن خدمة قاصديه في سبيل العلم».

رحل "الحمصي" عن دنيانا مطلع عام 1941، وقد أقيم له تمثال نصفي في ساحة حملت اسمه في "العزيزية"، كما تم تكوين لجنة لتوثيق أعماله وإصدارها عبر وزارة الثقافة أبصر بعضها النور.