تشهد الصروح العمرانية الكثيرة في الهضبات القديمة لمدينة "حلب" وتلالها على ما ورثته هذه المدينة من فنون غنية بالمادة التشكيلية بما فيها من تماثيل حجرية وأعمدة رخامية وأقواس وقباب ومآذن ولوحات فسيفسائية وأيقونات دينية تظهر شغف الحلبيين بالفنون الجميلة وممارستها عبر التاريخ.

للتعرف على ملامح التشكيل في مدينة "حلب" خلال القرون التي سبقت نقطة البدء في حركة التشكيل الحلبي والسوري عموماً في بداية القرن العشرين التقى موقع eAleppo بالباحث الفني الأستاذ "طاهر البني" والذي استهل حديثه بالقول: «إنّ الحديث عن أية حركة تشكيلية يضعنا أمام مسألتين هامتين إحداهما تتجسد في تعريف الفن التشكيلي وتحديد مفهومه والثانية تتجلى في البدايات الأولى لحركة الفن التشكيلي، ولعل معظم من يؤرخون للفن التشكيلي يعتبرون اللوحة الفنية والتمثال المحفور هو محاور هذا الفن ودون ذلك فهو فن تطبيقي فالزخرفة وصناعة الزجاج والخزف لا يمكن اعتبارها فنوناً تشكيلية بما في ذلك الفنون الشعبية المتمثلة في الرسوم التي يعدها مسرح خيال الظل أو تلك الرسومات التي تجسدت في بعض القصص الشعبية على نحو بدائي وتزييني في بعض الكتب الأدبية والعلمية.

إذا ذهبنا مع من يبحثون عن جذور الحركة التشكيلية في الماضي فإننا سنعاني من عثرات عديدة من أبرزها عدم توافر دلائل أو وثائق تاريخية في مثل هذا الموضوع لانّ مدينة "حلب" ظلت مأهولة طوال تاريخها مما غيّر كثيراً من معالمها وكذلك فإنّ انتشار العقائد التوحيدية في عصور متعاقبة ترك أثره في اندثار عدد من المنحوتات الوثنية التي لا تتفق مع هذه العقائد، يُضاف إلى ذلك أنّ الكنائس والمساجد التي أُقيمت على أنقاض هذه المعابد فيما بعد استخدمت حجارتها في إعادة البناء ومثال ذلك الحجر الهيروغليفي في "جامع قيقان" في "حي العقبة" الذي يعود إلى "تلمي شروما بن تليسنو" ملك "حلب" في القرن 14 قبل الميلاد. إذا ما بحثنا عن ملامح الفن التشكيلي في أوابد "حلب" المتبقية من العصور السابقة للفتح الإسلامي فإننا لن نعثر إلا على بضع قطع نحتية وُجدت في التلال القديمة للمدينة فإضافةً إلى قطعتين من الفسيفساء ذات الطابع البيزنطي الأمر الذي يؤكد لنا وجود ملامح فنية منذ العهود القديمة تتمثل في المنحوتات الدينية التي تخدم المعابد الوثنية

فإذا استطعنا أن نحدد مفهوم الفن التشكيلي من هذا المنطلق نستطيع أن نؤكد أن الانطلاقة الواضحة للحركة التشكيلية في "حلب" جاءت مع بداية القرن العشرين حيث وفدت رياح الثقافة الغربية وهي تحمل معها ألواناً تعبيرية مختلفة، وحين حاول بعض المهتمين بالفنون أن يؤرّخوا للحركة التشكيلية في سورية فإنهم اعتبروا بداية القرن العشرين نقطة البداية لحركة التشكيل السوري بيد أن بعضهم ربط ذلك بإرهاصات تعود إلى القرون الخمسة السابقة وذلك من خلال البحث في الفن الأيقوني الذي كان مزدهراً في سورية آنذاك، بل إن بعضهم اعتبر الأعمال النحتية والتصويرية والتي أبدعتها الحضارات البائدة في الأرض العربية لا تنفصل عن إبداعات العرب في مضمار الفنون التشكيلية».

لوحة الجنيتين -المتحف الوطني في حلب

ويضيف "البني": «إذا ذهبنا مع من يبحثون عن جذور الحركة التشكيلية في الماضي فإننا سنعاني من عثرات عديدة من أبرزها عدم توافر دلائل أو وثائق تاريخية في مثل هذا الموضوع لانّ مدينة "حلب" ظلت مأهولة طوال تاريخها مما غيّر كثيراً من معالمها وكذلك فإنّ انتشار العقائد التوحيدية في عصور متعاقبة ترك أثره في اندثار عدد من المنحوتات الوثنية التي لا تتفق مع هذه العقائد، يُضاف إلى ذلك أنّ الكنائس والمساجد التي أُقيمت على أنقاض هذه المعابد فيما بعد استخدمت حجارتها في إعادة البناء ومثال ذلك الحجر الهيروغليفي في "جامع قيقان" في "حي العقبة" الذي يعود إلى "تلمي شروما بن تليسنو" ملك "حلب" في القرن 14 قبل الميلاد.

إذا ما بحثنا عن ملامح الفن التشكيلي في أوابد "حلب" المتبقية من العصور السابقة للفتح الإسلامي فإننا لن نعثر إلا على بضع قطع نحتية وُجدت في التلال القديمة للمدينة فإضافةً إلى قطعتين من الفسيفساء ذات الطابع البيزنطي الأمر الذي يؤكد لنا وجود ملامح فنية منذ العهود القديمة تتمثل في المنحوتات الدينية التي تخدم المعابد الوثنية».

الكتابة الهيروغليفية -جامع القيقان في حلب

ويتابع: «لقد عُثر في أحد المعابد الوثنية الموجودة في "قلعة حلب" على قطعتين من الحجر البركاني الأسود تعود إلى العهود الحثية السورية في القرن التاسع قبل الميلاد وهي على شكل نحت جداري بارز يمثل جنيين مجنحين حول قرص الشمس وهلال القمر، كما عُثر في القلعة أيضاً على أسدين من الحجر البركاني الأسود كانا ينصبان عادة مداخل الأبواب كرمز للآلهة "عشتار".

وفي "عين التل" وهو من الأحياء الحلبية عُثر على تمثال بازلتي لرجل جالس على مقعد ذي مسند يضع رجليه على قاعدة مستطيلة يزيّنها مذبح ذو أربعة مربعات داخلها أشكال هندسية وتقوم القاعدة على أعمدة مستديرة ترتفع في الجوانب وتشكل في الأغلب قروناً لهذا المذبح وهذا التمثال يعود بوجه تقريبي إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وفي "تل النيرب" عُثر على نصبين يمثل أحدهما كاهنا للآلهة "سين" رب الوقت والزمن عند الحلبيين القدماء وأمامه مائدة ملأى بالمأكولات وأمامه خادم مذبة يكش بها الذباب أما النصب الثاني فيمثل كاهناً آخر يتضرع إلى ربه وهذان النصبان مملوآن بالكتابة الآرامية المنقوشة، كما عُثر على أثر من العهد الآرامي قد يكون من القرن السادس أو السابع قبل الميلاد وهو الجزء السفلي من نصب صغير يمثل الشطر السفلي لرجل واقف على الثور ويرتدي ثوباً عريضاً وهو دون شك الإله "حدد" الواقف على حيوانه الخاص الثور وأمامه يظهر ما يمثل الشمس وتحتها هلال القمر.

لوحة الدينونة أو الحساب الأخير -كنيسة الأربعين شهيداً في حلب

أما بالنسبة للفسيفساء التي أشرت إليها فإنها تعود للقرن الخامس الميلادي وقد وُجدت في أرض بمحلة "العزيزية" بجوار كنيسة "مار ميخائيل" وهي تتكون من مستطيل طوله 11 م وعرضه 8،50 م ويتألف المستطيل من ستة مربعات ثلاثة منها بحالة كاملة تقريباً ويمثل أحدهما أشكالاً هندسية بخطوط ثلاثية متداخلة ببعضها يتخللها مربع جميل والكل يتوج بدائرة كبيرة.

وحين خضعت "حلب" للفتح الإسلامي اختفت ملامح التصوير التشخيصي ولم يعد بالإمكان نحت التماثيل والنصب نتيجة موقف الإسلام منها حيث نهى عن نحت التماثيل والتصوير رغبة منه في أن يُبعد أتباعه عن كل ما يقرّبهم من عبادة الأوثان ويصرفهم عن عبادة الله الواحد وانعطف اهتمام المسلمين إلى إبداع رسوم جميلة يندر تصوير الأحياء فيها ولكن تتكون من أشكال نباتية وهندسية يتداخل بعضها في بعض وتتكون من زخارف أصبحت من مميزات الفن الإسلامي، وتألقت الفنون التطبيقية كالنقش على الأواني الزجاجية النحاسية وكذلك زخرفة الكتب مع دخول الخط العربي في مجال التزيين والزخرفة التي تزدهي بها المباني الهامة كالجوامع والمدارس والمكتبات والأسوار والأبواب وغيرها».

وأخيراً وحول فن التصوير الأيقوني في "حلب" يقول الأستاذ "طاهر": «إذا كانت القرائن والأدلة قد قصّرت في رسم ملامح فن التصوير في "حلب" خلال العصور الإسلامية السابقة فإنّ هذه القرائن تبدو جلية حين نتحدث عن فن التصوير الأيقوني في هذه المدينة حيث شهد القرن السابع عشر الميلادي ازدهاراً واضحاً في التصوير الأيقوني في "حلب" وذلك حين جدد مسيحيو سورية علاقتهم مع روما والكنيسة الكاثوليكية من جهة ومع البلدان الأرثوذكسية من جهة أخرى، وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ "يوسف المصور" هو أقدم مصور أيقوني في "حلب" وقد رسم مع أبنائه وأحفاده عدداً من الأيقونات هي منتشرة في عدد من الكنائس داخل "حلب" وخارجها، ومن أعمال "يوسف المصور" منمنمة في مخطوطة محفوظة في المتحف الآسيوي تاريخها 1660 م وأيقونتان محفوظتان في بيروت، أما ابنه "نعمة المصور" فله /الدينونة/ و/سمعان العمودي/ و/آلام القديس جورجيوس/ وغيرها، وأفسح "نعمة" الفرصة لابنه "حنانيا" لمشاركته في التصوير الأيقوني الذي أظهر مقدرة فائقة حين اشتركا في رسم لوحة /الدينونة/ أو /الحساب الأخير/ الموجودة في كنيسة "الأربعين شهيداً" الأرمنية في "حي الجديدة" بمدينة "حلب".

وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر تألق اسم الشماس "جرجس ابن حنانيا" كمصور نشيط كثير الإنتاج والذي بات متأثراً بتيارات الفن اللاتيني والفنون الكلاسيكية المحدثة في الفن التشكيلي الأوروبي ومن أشهر أعماله لوحة /آلام القديس روجيوس/ المحفوظة في بيروت».