تعتبر مدينة "حلب" القديمة متحفا ربما هو الأكبر على مستوى العالم على الإطلاق؛ فكل حجر فيها يحكي قصة، وكل معلم فيها يشكل رواية، وكل درب فيها يمثل سيرة من مشوا عليه من قادة أو أناس عاديين.

الحفاظ على هذا التراث الكبير واجب على كل أهل "حلب"، وهو عملية تبدأ ولا تنتهي حيث هي عملية مستمرة جيلا بعد جيل، وأمانة تتوارثها الأجيال. لأجل هذا الموضوع، ولكي تكون عملية المحافظة على هذه المدينة أكبر ومنظمة بشكل أكثر؛ تم إنشاء مديرية خاصة تعنى بهذا الموضوع هي مديرية "إحياء حلب القديمة" التي حققت العديد من الإنجازات في هذا المجال منذ تأسيسها الذي يعود إلى خمسة عاما مضت.

الهدف هو المحافظة على المدينة القديمة وتطويرها لتتناسب مع ظروف الحياة لتكون مناسبة للحياة، الاهتمام بـ(الحجر والبشر)

ولمعرفة المزيد عن هذه المديرية والخدمات التي تقدمها، التقينا السيد المهندس "عمار غزال" المدير والذي قال لنا:

الأستاذ المهندس "عمار غزال"

«تعتبر مديرية "المدينة القديمة" الجهة التي تدير مشروع "إحياء حلب القديمة" وهو مشروع يمثل إدارة عمرانية متكاملة لمدينة "حلب القديمة" كما تصورها مجلس "مدينة حلب" ليس فقط عن طريق تقديم الخدمات، وإنما التدخل في تطور وتنمية المدينة في مجالات مختلفة مثل المجالات التنموية والاقتصادية والاجتماعية مع دعم مجالات السياحة، والمتابعة والمحافظة على البيئة مع تقديم خدمات أفضل. هذه التدخلات هي تعتبر نظريا خارج صميم عمل مجلس البلدية الأساسي، ولكن لكي تكون "حلب" المكان الأنسب للحياة، يجب تقديم خدمات إضافية مع مساعدة المواطن على تحسين دخله، ورفع القيم الاجتماعية وتطوير بعض العادات والتقاليد أيضا وذلك إضافة إلى دعم السياحة لأنها تمثل أكبر مصدر دخل للمواطن ضمن المدينة القديمة. هذه التدخلات تندرج كلها في إطار المفهوم المتكامل للإحياء الذي يقوم عليه المشروع».

ويتابع بأن العمل في المدينة القديمة بدأ في العام /1994م/ بتعاون دولي على اعتبار أن مدينة "حلب" سميت "كموقع من التراث العالمي"، فتمت دعوة عدد من المنظمات الدولية للمساهمة في إحياء "حلب" القديمة وتم بدء العمل مع الوكالة الألمانية للتعاون التقني الممثلة عن الوزارة الألمانية من جهة، وأيضا الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ولاحقا مؤسسة الأغا خان. ويضيف بأن وجود هذه المؤسسات الدولية ساعد على رفع جودة الخدمات التي تقدمها المديرية وبناء المفهوم المتكامل للإحياء ما أدى إلى نيلها لجائزتين الأولى كانت من جامعة "هارفارد" في أمريكا وهي جائزة "فيرونيكا جرين برايس" عن المفهوم المتكامل للإحياء، وأخرى في العام /2005/ من منظمة الدول العربية عن تكامل العمل؛ ويتابع بالقول:

المدينة القديمة.. كل حجر يحكي قصة

«الهدف هو المحافظة على المدينة القديمة وتطويرها لتتناسب مع ظروف الحياة لتكون مناسبة للحياة، الاهتمام بـ(الحجر والبشر)».

ما هي المدينة القديمة؟

«المدينة القديمة هي منطقة مساحتها /365/ هكتار مربع، فيها /240/ آبدة أثرية مسجلة فيها عدا القلعة التي هي كنز كبير لا يقدر بثمن من ناحية القيمة والحضارة. فيها ما يقارب /120/ ألف ساكن، ويأتيها يوميا /500/ ألف زائر وتشمل المنطقة داخل سور المدينة القديم وخارجه أيضا». يقول السيد "عمار" ويتابع:

مشهد عام للمدينة القديمة من قلعة "حلب"

«جرت خلال الفترة الماضية عدة مشاريع فيها منها ما كان ينصب في الجانب الثقافي والاجتماعي عن طريق تطوير المرأة لتكون عنصرا فعالا، وتطوير ودعم الطفولة مع رفع الوعي بقيمة الثقافة وتأثيرها على حياة الإنسان، وتنمية العادات الثقافية التي كانت لدى أجدادنا والتي كانت تسبق دولا كثيرة في تلك العصور والتي هي هويتنا التي تعبر عن المواطن السوري والحلبي. وقد أقمنا لأجل ذلك العديد من المهرجانات بالتعاون مع عدد من الجهات مثل السفارة الألمانية التي رعت "الأسبوع الثقافي في المدينة القديمة" والذي تحول إلى عادة سنوية بدعمها، كما أن هناك "الأيام السورية السويسرية" التي هي تظاهرة جديدة ستستمر إلى جانب الفعاليات الثقافية الأخرى التي تنظم سنويا. هدف هذه الأنشطة هو جذب الناس إلى المدينة القديمة للتمتع بها ودعم الاقتصاد المحلي فيها حيث نعمل حاليا على موضوع دعم الحرف التقليدية مثل إحياء صناعة النسيج وتوثيقها ومتابعة إنتاجها بالطرق التقليدية، ودعم صناعة الصابون والزعتر وصناعة "التحضيرات اللازمة للزواج". وكلنا نعلم أن صابون "حلب" معروف في كل أنحاء العالم هو والزعتر الحلبي وحتى فستق "حلب"».

ويضيف بأن هناك هدف آخر هو جذب السياح لأن السياحة أكبر مولد للدخل بعد النفط حيث يتابع بالقول:

«لدينا كنوز يمكن استثمارها في مجال السياحة، ونحاول توظيف المعالم الأثرية لتكون في خدمة السائح. نعمل على خطة سياحية في المدينة القديمة تقوم بتوزيع الأدوار بيننا وبين مديرية السياحية وباقي الجهات وصولا إلى مؤسسة الطيران المدني ذاتها وذلك حتى نصل إلى أفضل خدمة سياحية ممكنة. عدد زوار مدينة "حلب" العام الماضي كان كبيرا وكانت نسبة إشغال الغرف الفندقية كبيرة جدا أيضا».

«بالنسبة للسكان فيها فقد انتقلوا من مفهوم "أن هذا البيت المتهرئ القديم التعبان الذي يتمنى خرابه وإصدار بناء مكانه" إلى مفهوم "أن لديه كنز يجب المحافظة عليه". صحيح أنه ما يزال هناك بعض السلبيات والمخالفات ولكنها صارت محصورة وصغيرة وأصبح هناك وعي بأهمية المدينة القديمة وأنها كنز لا يعوض وكل إنسان لديه منزل فيها يعني أن لديه كنز كبير. أما في ناحية التجارة فتكرس مفهوم أن التاجر الذي لديه خان في المدينة القديمة هو "تاجر"، أما من ليس لديه فيها فهو "تويجر" وأصبح هذا عرفا حيث للعديد من كبار التجار أملاك ومصانع خارجها ولكن لا بد أن يكون لديه محل فيها مهما تعددت أملاكه خارجها».

الترميم؟!

«بالنسبة للتدخل في مجال الترميم فقد تم وضع معايير ترميم خاصة في المدينة القديمة تراعي المواد المستخدمة تاريخيا وطرق تنفيذ هذه الأعمال وكيفية تركيب الحجر الحلبي والخشب وغيرها بما يتوافق مع المعايير الدولية. المدينة القديمة لها قيمة تاريخية وأثرية كبيرة وبحاجة لرعاية خاصة حيث قمنا بوضع نظام يراعي خصوصية المدينة مع النظر إلى المواثيق الدولية المتعلقة بهذا الموضوع والتي تشدد على استعمال مواد معينة في موضوع الترميم. إن المدينة حية ومستعملة وبحاجة لصيانة وإصلاح وليست آبدة أثرية مهجورة نرممهما مرة ونستعملها كمتحف».

ويضيف بأن موضوع الدعم الحكومي هو على أعلى مستوى، وهناك لجنة حماية المدينة القديمة التي يرأسها محافظ حلب والنائب هو رئيس مجلس مدينة "حلب" مع عضوية كل من مدير الثقافة ورئيس جمعية العاديات ومدير الآثار ومدير الأوقاف ومدير المدينة القديمة ومدير السياحة ونقيب المهندسين بـ"حلب" وعميد كلية الهندسة المعمارية. وتعتبر هذه اللجنة هي اللجنة الرئيسية التي تشرف على مشروع الإحياء وهناك لجان فرعية منبثقة عنها.

«ما تم إنجازه حتى الآن هو توثيق و"قوننة" كافة طرق استصدار الرخص في المدينة القديمة من رخص الترميم وبناء وغيرها وجعلها بطرق مبسطة وعلى مبدأ "النافذة الواحدة". بالنسبة للمشاريع التي تم ترميمهما فكانت /920/ عقار في المدينة القديمة من أصل /2700/ بحاجة إلى ترميم. والعملية تتم من خلال تحفيز الناس على ترميم عقاراتهم والتي هي ملكية خاصة حيث لا يمكن الفرض على المواطن أن يرمم منزله لأن الأمر مرتبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي الخاص به، ولكننا في الوقت ذاته نحفزه على ترميم منزله من خلال "صندوق دعم السكن" الذي يمنح قروضا تصل إلى /250/ ألف ليرة سورية وبدون فوائد أو دفع رسوم ترخيص أو دراسات حيث تقدم كلها بشكل مجاني من قبل المديرية القديمة. وضعنا خطة للمشروع تمتد لعشرين سنة ومن ثم تبدأ دورة حياة جديدة والمشروع الحالي بقيت له خمس سنوات ليبدأ بعد ذلك مشروع جديد بإستراتيجية جديدة. نحن حاليا في مرحلة "التجميل والتحسين" حيث أنهينا مرحلة "الاحتياجات الأساسية" عن طريق صيانة شبكة الصرف الصحي ومياه الشرب التي كادت تؤدي إلى انهيار البيوت على سكانها. وهناك تدخلات في الجانب الاقتصادي لدعم الاقتصاد المحلي وتهيئة الظروف المناسبة لاستمرار الحرف التقليدية ومنعها من الاندثار».

عدم ثقة!

ويتابع بأنه في البداية كانت هناك العديد من المعوقات والتي تمثلت في عدم وجود ثقة بالمديرية من قبل المجتمع المحلي حيث يقول السيد "عمار"عن هذا الموضوع:

«لم تكن لدى المجتمع المحلي الثقة الكافية بمجلس المدينة حول عملية الإصلاح في البدايات والدليل هو أنه عندما بدأنا بعملية إصلاح شبكات الصرف الصحي، كانت هناك معارضة كبيرة من الناس ومنهم من اتصل بالصحف والجرائد والمجلات ومنهم من كان يخرب ويغلق الحفر التي تتم. الآن أصبحت الناس متعاونة جدا وحتى داعمة ومنهم من يسقي العمال الشاي طوال الوقت حيث بنيت الثقة بين المواطن وبين العمال خلال السنين الماضية، وعرفوا أن مديرية المدينة القديمة تعمل لمصلحتهم. والمثال القريب على هذا هو مسار باب النصر والذي كان فيه مشاكل في الصرف الصحي حيث تم فتحه بطريقة استثنائية وبميزانية استثنائية ورغم اضطرارنا لقطع الطريق من أجل الصيانة، مع ذلك لم يعترض أحد رغم أهمية السوق وبالعكس كانوا داعمين وجاهزين لتقديم المساعدة. نفس الكلام يساق على الأسواق التقليدية التي بنيت علاقة ثقة مع تجارها ومن خلال عملية تحسين ظروفها لتكون أفضل مكان لممارسة العمل».

ويتابع بأنه تم استبدال ما يقارب 90% من شبكات الصرف الصحي أي ما يعادل /200/ كم الأمر الذي انعكس على الراحة في استعمال الطرق والشوارع. ويضيف بأن الواقع المروري فيها حاليا هو قيد الدراسة حيث هناك محاولة لتخديم المدينة القديمة بالكامل بأفضل شروط ممكنة.

مشاريع سياحية...

إضافة إلى ما سبق، تم العمل على تحسين الواقع السياحي بشكل كبير حيث يقول السيد "عمار" عن هذا الموضوع:

«تم الاهتمام حاليا بمنطقة محيط القلعة وفق مخطط ثقافي يعطي ضمانة للسكان بالاستمرار بالحياة مع تركيز بعض الوظائف في بقع فيها. وسيكون في "تلة السودا" مستقبلا حديقة من أهم الحدائق في سورية هي حديقة "باب قنسرين" ومساحتها ستكون /17/ هكتار مربع، وستنفذ وفق أعلى معايير الجودة مع تأمين /300/ فرصة عمل للسكان ولتكون أيضا متنفسا اجتماعيا وبيئيا لسكان المدينة القديمة والحديثة».

«ستعمل المديرية مع مجلس مدينة "حلب" على موضوع دعم الغناء والموسيقى الدينية في المدينة القديمة باعتبار أن فيها تمثيل لكل الطوائف والجاليات والمذاهب الدينية الموجودة في "حلب" سواء الإسلامية أو المسيحية، وهذه الرموز لديها تاريخ وتراث كبير. فالموشحات والتراتيل والترانيم والمدائح النبوية هي كلها تراث وعملية جمعهم في مركز واحد سيقدم توثيق لهذا التراث الموسيقي الديني إضافة إلى عرضه بطريقة جميلة من خلال برنامج سنوي يتم تنظيمه كل سنة. أما الموضوع الثاني فهو التأكيد على الأسبوع الثقافي للمدينة القديمة من خلال جعله عادة سنوية تكون في نهاية أيار وبداية حزيران لقدوم السياح والاستمتاع فيها، وأود أن أقول بأن الفعاليات تتم على أعلى مستوى من الجودة حيث يتم استضافة أفضل الفرق الفنية وأفضل المعارض؛ على سبيل المثال في الأيام السورية الألمانية كان في اليوم الأخير هناك حفل موسيقى لعازف سوري كان من أهم العازفين في أوروبا والذي كان هو العازف السوري والعربي الوحيد الذي عزف في فرقة الأمم المتحدة الموسيقية على مدار سنوات وهو السيد "أشرف كاتب". ويملك هذا الشخص بحث موسيقي كبير هو إحياء الموسيقى الكلاسيكية التي ألفها مؤلفين عرب، وهو مشروع مهم وكبير للوصول إلى المستمعين في العالم أجمع ومخاطبتهم عن طريق المؤلفين العرب الذي ألفوا موسيقى كلاسيكية ولم يعرفها أحد. سيقوم هو بتسجيلها وإيجادها وطرحها بشكل عالمي. وقد قام مجلس مدينة "حلب" ومديرية المدينة القديمة بدعم المشروع بشكل كامل».

ويعتبر السيد "عمار" أن المدينة القديمة "كنز كبير" حيث يعبر عن هذه الفكرة بالقول:

«أحب أن أنوه إلى أن المدينة القديمة هي كنز كبير ونحن بحاجة إلى أن نذكر بعضنا بأن نرفع الوعي لدى المواطن بأن هذه المدينة تمثل خلاصة تطور اجتماعي كبير عبر آلاف السنين وتطور أخلاقي ومعماري وهي مجموعة عادات وتقاليد تمثل هويتنا التي تميزنا عن أي شعب آخر؛ ويجب أن نعتز فيها ونفتخر فيها لأنها مهمة. أما العمارة التقليدية التي هي موضوع الاهتمام الأساسي لنا فهي تحقق كل أهداف واحتياجات الإنسان، كما أن تخطيط المدينة القديمة بشكل عام والدراسة المعمارية للبيت التقليدي تقدم شيئا غير موجود بأي عمارة أخرى لا الغربية ولا الرومانية حيث تقدم الخصوصية والراحة والتساوي بين المواطنين وتوفير الاحتياج الكامل من الهواء والماء وتعدد الألوان الوظيفة البيئية من خلال "السماوية" (أرض الحوش) وهي المكان الذي تتواجد فيه المزروعات التي تجعل المنزل العربي يبدو بمثابة حديقة وجنة، إضافة إلى موضوع شروط العزل والتهوية والتدفئة التي كانت كلها متوفرة في المنزل العربي القديم».

وكانت الكلمة الأخيرة التي قالها الأستاذ "عمار":

«أود التذكير بمفهوم "الخدمة العامة" والذي هو سبب وجود كل مسؤول وموظف حيث هدفنا هنا هو تقديم خدمة للمواطن بشكل مباشر أو عن طريق الدراسات والتخطيط للمدينة. نحن نعمل لأجل سكان القديمة ولأجل راحتهم وهو أحد أهداف المشروع إضافة إلى المحافظة على المدينة القديمة وتطويرها لتكون مكان أفضل للسكن».

هي المدينة الأقدم تاريخيا بشهادة مختصي الآثار... وهي المدينة التي يمثل بناءها القديم حكاية رواها أجدادنا تشرح ميزة ومناعة هذه المدينة على مر الأجيال.